وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن، وتجريد الكليات عن المعينات.
وأما قوله: "وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته".
فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله، وإن كان كله محسوسا، بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة، ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا [ ص: 33 ] عند رؤية ظاهره، لا لعدم إمكان إحساسه، لكن لاحتجاب باطنه، أو لمعنى آخر.
وهذا أيضا [من] مثارات غلطهم، فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا، وبين ما يمكن إحساسه، وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه.
فإن عنى بالمحسوس الأول، فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس، ومنها ما ليس بمحسوس، وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوسا لنا، فلا نشهده الآن، بل هو غيب عنا، ولكن هو مما يمكن إحساسه، ومما يحسه الناس بعد الموت.
ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة، قال تعالى: الذين يؤمنون بالغيب [سورة البقرة: 3]، وقال: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك [سورة هود: 49]، وقال: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم [سورة فاطر: 22].
وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول.
والمعقول في الحقيقة: ما كان في العقل، وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس، وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنة الآن.
[ ص: 34 ] وأما
فيقال له: هذه حجة عليكم، فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه، فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج، ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج. قوله: "وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس، فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها".
وقولكم: "يتخيله مع تلك العوارض" إثبات لشيئين، ولا حقيقة لذلك، بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه.
وقولكم: "فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها" كلام ملتبس، فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج، وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها، فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه، وما في نفسه ليست الصورة المحمولة.
والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر، وليس مع غيبوبة حاملها قط، سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور، أو نفس الشكل القائم به.