فهذه ألفاظه، ومن الناس من قال: هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى، وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه، وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية: هل هي للنفس، وإن كان بواسطة الجسم، أو هي للجسم؟ وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة؟ وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة؟
فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان، فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان -بل وغيره من الحيوان- يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده، ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده.
[ ص: 49 ] فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان، وهم سموا التصور وهما، وقالوا: إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية.
فالأول: قول الجمهور، والثاني: قول من يقول: إنه ليس للعبد قدرة مؤثرة في مقدوره. والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله: كالسمع، والبصر، والتفكير، والعقل، وغير ذلك من أنواع التصورات والأفعال، سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك: هل هو بقوى في الحيوان أم لا؟
والأولون على قولين: منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية، ومنهم من يجعله في جميع الحوادث.
وهؤلاء نوعان: منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون: إن الله موجب بذاته بدون مشيئته وعلمه بالجزئيات، وهذا باطل شرعا وعقلا. ومنهم من يقول: إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته.
وهذا ويقولون: إن هذه الأمور جعلها الله أسبابا لأحكامها، وهو يفعل بها، كما قال تعالى: مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور علمائها: يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع، ويثبتون للعبد قدرة حقيقية وإرادة، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [سورة الأعراف: 57].
[ ص: 50 ] وقال تعالى: وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها [سورة البقرة: 164]، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة.
وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع، ولهذا نص أحمد بن حنبل والحارث وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان. والمحاسبي
ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا: إن العقل إنما هو نوع من العلوم الضرورية، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم. والقاضي أبو بكر بن العربي
والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة: كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه، وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه، أمر متفق عليه بين العقلاء، سواء قيل بتعدد القوى، أو اتحادها، أو عدمها، وسواء قيل: المدرك هو النفس أو البدن.