فهذا الذي ذكره في "مقامات العارفين" هو أول قدم يضعه المؤمن في الإيمان، ولا يكون مؤمنا من لم يتصف بهذا. وقد
[ ص: 63 ] اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته، لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي، الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم، فقالوا: إنه لا يحب ولا يحب. والفلاسفة، وإن كانوا يردون على هؤلاء، كما يرد عليهم أئمة الدين، فهم أقرب إلى الحق من ابن سينا وأتباعه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وابن سينا
وقد قال طائفة من النظار: إن الإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم محدث، وهو ما يراد أن يفعل، فأما القديم الواجب بنفسه فلا تتعلق به الإرادة.
وقالوا: قول القائل: "أريد الله" أي: أريد عبادته، ونحو ذلك.
وقال آخرون: بل الإرادة تتعلق بنفس القديم الواجب بنفسه، كما نطقت به النصوص.
والتحقيق أنه لا منافاة بين القولين، فإن كون الشيء محبوبا لذاته مرادا لذاته: هو أن المحب المريد لم يطلب إرادته لما سواه، بل كان هو أقصى مراده، وإنما يكون الشيء مرادا محبوبا لما للمحب المريد في الاتصال بذلك من السرور واللذة، إذ المحبة لا تكون إلا لما يلائم المحب، فما يحصل عند ذكره ومعرفته والنظر إليه من اللذة هو مطلوب المحب المريد المحب لذاته.
[ ص: 64 ] كما ثبت في صحيح عن مسلم رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صهيب دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة".