وحينئذ
[ ص: 111 ] وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة، ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود، ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس، من جملة أعراضها، لا ينفصل شيء من ذلك عنها، وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع. فإذا قيل: إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به، فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس، بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا، وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس، والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن، وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية هي هذه العقليات، ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات، ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات، وسمى هذه وهميات، فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا، فلم يصدق بالموجودات الغائبة، ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك، وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال، وتستقبح ما يضرها، فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية، كما أخرجها من أن تكون من الكمال، ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد، لا حب معه لله تعالى في الحقيقة، وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالا من العلم.
وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل، وما فيه من العلم فليس علما [ ص: 112 ] بموجودات معينة، وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج، فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة، ولا نجاتهم من النار، وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم، كما قد بسط في موضعه.