وبالجملة وعلمهم عنها، فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر. فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا: أعني العلم والعمل". فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت [ ص: 220 ] وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها،
قال: "ومثال من أول شيئا من الشرع، وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس، أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا لأقل الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، [ ص: 221 ] وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول، فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير [ ص: 222 ] التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جدا عن موضوعه الأول. ولما علم صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض، ولا بد في شريعته قال: " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس".
قال: "وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة، في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل، تبينت أن هذا المثال صحيح. فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء [ ص: 223 ] الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه "بالمقاصد"، وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف "بتهافت الفلاسفة"، فكفرهم فيه في مسائل ثلاث من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم، وبدعهم في مسائل، وأتى فيه بحجج مشككة، وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة والشريعة جميعا، ثم قال في كتابه المعروف "بجواهر القرآن" إن الذي أثبته في كتاب "التهافت" هي أقاويل جدلية، وأن الحق إنما أثبته في "المضنون به على غير أهله" ثم جاء في كتابه المعروف "بمشكاة الأنوار" فذكر فيه مراتب العارفين بالله، وقال: إن سائرهم محجوبون، إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية، وهو قد قال في غير ما وضع: إن علومهم الإلهية تخمينات، بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه "بالمنقذ من الضلال" فتحامل فيه على [ ص: 224 ] الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه "بكيمياء السعادة" فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهان عليها، وهذا لا يحل ولا يجوز، أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده البرهان عليها، لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل، ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع، فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعا، أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس، وحفظ الأمرين أيضا جميعا عند آخرين. أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيها بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به، وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضا بمعان فيها لا [ ص: 225 ] يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان، وأما حفظه للأمرين جميعا، فإن كثيرا من الناس لا يرى بينهما تعارضا من جهة الجمع الذي استعمل منهما، وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما، وذلك في كتابه الذي سماه "التفرقة بين الإسلام والزندقة"، وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات، وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر. وإن خرق الإجماع في التأويل. فإذا ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه، وللحكمة بوجه، ونافع لهما بوجه، وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعا. أعني الحكمة والشريعة، وأنه نافع لهما بالعرض. وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات: إما إبطال الحكمة، وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما. والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور، فأما قد وقع التصريح، فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة [ ص: 226 ] مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها. وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة، أعني على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي: إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها، وإما رأي خطأ في الحكمة، أعني تأويل خطأ عليها، كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل". أبو حامد
قال: "ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها. وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة. ولذلك اضطرنا نحن إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة".