الرازي: "الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية، كان حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائزا، فافتقر فيه إلى مرجح، وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد، والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة، وهي غير متناهية، فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية، ولا يرتضيه مسلم". والاعتراض على هذا من وجوه: قال
أحدها: أن يقال: الأحياز أمور عدمية كما قد عرف، فإنهم يقولون: العالم في حيز، والحيز عندهم عدمي، ولو قال قائل: إن الحيز قد يكون وجوديا، فالمثبتون يقولون: نحن نقول: أنه فوق العالم وحده، كما كان قبل المخلوقات، وليس هو في حيز وجودي، فإذا [ ص: 320 ] سميت ما هناك حيزا، كان تسميته للعدم حيزا، وهو اصطلاحهم.
وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة، حتى يقال: إنها متماثلة أو مختلفة.
فإن قيل: من الناس من يقول: الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له.
قيل: هذا القول إن كان صحيحا ثبت قدم الحيز الوجودي، وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك. وإن كان باطلا بطلت الحجة أيضا كما تقدم، فهي باطلة على تقدير النقيضين، فثبت بطلانها في نفس الأمر.
الوجه الثاني: أن يقال: لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية؟
قوله: "حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائز، فيفتقر إلى مرجح".
يقال له: نعم، وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته، كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض، وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض، مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر، وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار، وصفة على صفة، مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى.
الوجه الثالث: أن يقال: ترجح بعض الأحياز على بعض متفق [ ص: 321 ] عليه بين العقلاء، سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة، فإن القائلين بالعلة الموجبة يقولون: إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره، وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر، وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقا عليه بين العقلاء، لم يكن في ذلك محذور.
وإذا قيل: هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن.
قيل: فإذا جاز ذلك في الممكن، فهو في الواجب أولى بالجواز، فإن المرجح إن كان موجبا بالذات، فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره، وإن كان فاعلا بالاختيار، فاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بغيره.
وإذا قيل: هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته.
قيل: قد عرف أنهم يعترفون بذلك، وهو لازم لعامة العقلاء.
الوجه الرابع: أن يقال: أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم، لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته، المتعلقة بمشيئته وقدرته، قولان مشهوران:
أحدهما: قول من يقول: لا يجوز ذلك، كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما، من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم. فهؤلاء يقولون: استواؤه مفعول له، فعله في العرش، ويقولون: إنه خلق العالم تحته، من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز، ويقولون: إنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته. والشافعي
[ ص: 322 ] والقول الثاني: قول من يقول: إنه يفعل أفعالا قائمة بنفسه باختياره ومشيئته، كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش، وبالإتيان والمجيء، وطي السماوات بيمينه، وغير ذلك، مما هو قول أئمة أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي فهؤلاء يقولون: إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته. فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعا. وأحمد،
الوجه الخامس: أن يقال: الحيز، إما أن يقال: إنه موجود، وإما أن يقال: إنه معدوم.
فإن قيل: هو معدوم، لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود.
وإن قيل: هو موجود، فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وإما أن يكون ممكنا، فإن كان ممتنعا تعين القسم الأول، وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية، فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء. وحينئذ فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل: إما بقدرته ومشيئته، على قول المسلمين وجمهور الخلق، وإما بالذات، عند من يجوز نظير ذلك، وإن كان وجوده في الأزل ممكنا، فلا محذور فيه، فبطل انتفاء اللازم.
الوجه السادس: أن يقال: التقسيم المذكور غير حاصر، وذلك لأن الأحياز: إما أن تكون متماثلة، وإما أن تكون مختلفة، وعلى التقديرين: فإما أن تكون متناهية. وإما أن تكون غير متناهية فإن كان [ ص: 323 ] وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعا، بطل هذا التقسيم، ولم يلزم بطلان غيره، وكذلك أي قسم بطل، لم يلزم بطلان غيره، وذلك لأن هؤلاء النفاة: منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة: إما بنفسها، وإما بغيرها، كما تقول طائفة منهم بأن القدماء خمسة: الواجب بنفسه، والحيز الذي هو الخلاء، والدهر، والمادة، والنفس. ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وإن لم يقولوا بغير ذلك.
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها -وإن قيل: إنه باطل- فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة، وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك، فإذا خوطبوا على موجب أصولهم، وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب، كان هذا من تمام نصر الله لرسوله، وإظهار لنوره.
الوجه السابع: أن يقال: مقدمات هذه الحجة ليست برهانية، فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح، وهذا غير ممتنع.
وأما على التقدير الثاني، فيلزم ثبوت أحياز مختلفة. أما كونها غير متناهية، فذلك غير لازم.
وحينئذ فيقال: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه، ممكنة بنفسها واجبة به، أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، كما عرف من مذاهب الطوائف. ويقال على وجه التقسيم: إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني.
[ ص: 324 ] والمقصود بيان فساد أمثال هذه الكلام بالحجج العقلية المحضة، فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها، المخالفة لدين المرسلين، فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس، كان ذلك خيرا من فعلهم.
الوجه الثامن: أن يقال: الأحياز: إن كانت عدمية، لم يكن في ذلك محذور، سواء كانت متماثلة أو مختلفة، فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور، والمثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه، فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين. وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته، وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا، وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا، فعلم أنه لا حجة فيما ذكره.
الوجه التاسع: أن من المسلمين من يقول: قد قامت به في الأزل معاني لا نهاية لها، كعلوم لا نهاية لها، وكلمات لا نهاية لها، وإرادات لا نهاية لها، ونحو ذلك. ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكنا بدون ثبوت أحياز قديمة، مختلفة غير متناهية، لم يضرهم بطلان هذا اللازم.
وإن قيل: إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجا إلى دليل، وهو لم يذكر دليلا على نفيه، وإنما قنع بحجة مسلمة، وهي أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة [ ص: 325 ] قائمة بأنفسها غير متناهية، ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم، لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم، فإذا قدر أنه من لوازم قولهم، احتاج نفيه إلى دليل، ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع، لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا، فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى: الله خالق كل شيء [سورة الزمر: 62]، و: رب العالمين [سورة الفاتحة: 2] ونحو ذلك، لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله، وهو ربها، وهذا لا ينازع فيه مسلم، لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين، فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما.
الوجه العاشر: أن يقال: هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده، ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم، بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك، كما يذكر مثل ذلك في كتاب "المطالب العالية" وغير ذلك من كتبه.
وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه، فلا ينازعون في كثرتها، وظهور دلالتها، ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها، وإنما يدعون أنه عارضها العقل.
وإذا كان الأمر كذلك، لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية، ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها، [ ص: 326 ] بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب، فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع.
والمقدمة السمعية: إما نص أو إجماع، ولا نص في المسألة، وأما الإجماع فهو يقول: أنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة، ومعلوم أنه ليس عن الصحابة، بل ولا التابعين، ولا الأئمة المشهورين، ما يقرر ما يقرر مطلوبه، بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه.
وأيضا فالإجماع عنده دليل ظني.
ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة، فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة، بنصوص دونها في الظهور والكثرة.
وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية، فقوله في غاية الضعف كيفما احتج، سواء ادعاها نصية أو إجماعية، مع أن قوله أيضا في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية، فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.