الوجه الرابع: أن يقال: أتعني بجملة ما يفتقر إليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع، وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطا أو فاعلا، فإن وإذا حصل كل ما يحتاج إليه الشيء لم يبق الشيء محتاجا إلى شيء أصلا، فيلزم وجوده حينئذ، فإنه ما دام مفتقرا إلى شيء لم يوجد، وإذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفا على شيء أصلا لزم وجوده، فيعنى بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الأمور التي إذا وجدت وجد المجموع، وإن لم توجد جميعها لم يوجد المجموع. جملة ما يفتقر إليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر إليه الشيء. فكل ما كان الشيء مفتقرا إليه فهو [ ص: 260 ] داخل في هذه الجملة،
ومعلوم أنه إذا عني به ذلك لم يمكن أن يكون ذلك بعضها، لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع، فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع، وإن لم يحصل لم يجز حصوله، فلو كان بعض الأجزاء هو تلك الجملة لوجب أن يكون ذلك البعض كافيا في حصول المجموع، سواء قدر فاعلا لنفسه ولباقي الجملة، أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع، أو قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة، فأي تقدير قدر كان ممتنعا، فإن جملة ما يفتقر إليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر، وهو المطلوب.
ولكن لفظ "المجموع" فيه إجمال، فإنه قد يعنى به مجرد الهيئة الاجتماعية، وقد يعنى به كل من الأفراد، أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية، فإن عني به الأول فلا ريب أن هذا قد يكون بعض الأفراد موجبا له، كما في المجموع المركب من الواجب والممكن، فإن [ ص: 261 ] الواجب هو الموجب للممكنات، وهو الموجب أيضا للهيئة الاجتماعية، والهيئة الاجتماعية أمر ممكن خارج عن الواجب، ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية، لكنه بعض الأفراد، والهيئة نسبة وإضافة، وليس هو بعض النسبة والإضافة، ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض، والنسبة وسائر الأفراد غير له، وهو الموجب لكل ما هو غير له.
وأما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد، فإن هذا يقتضي أن يكون ذلك البعض موجبا لنفسه فاعلا لذاته، وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء، بل هو من أبلغ الأمور امتناعا، والعلم بذلك من أوضح المعارف وأجلاها، ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء.
وإذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو أبعد عن أن يكون واحد من الأفراد موجبا لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية، وهذا بين، ولله الحمد والمنة.
واعلم أن مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها، ومثل هذه الخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات [ ص: 262 ] لا نهاية لها، ولا يمكن استقصاء ما يرد على النفوس من وساوس الشيطان، ولولا أن هذين الرجلين اللذين كان يقال إنهما من أفضل أهل زمانهما في المباحث العقلية: كلاميها وفلسفيها، أورد كل منها ما ذكرت، وصار ذلك عنده مانعا من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود، لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه، فضلا عمن نور الله قلبه.
ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون -كما زعم إن الآمدي- وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب، فأي شيء عرفوه؟ كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات،