( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون   ( 16 ) اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون   ( 17 ) ) 
يقول الله تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي : تلين عند الذكر ، والموعظة ، وسماع القرآن ، فتفهمه ، وتنقاد له ، وتسمع له ، وتطيعه . 
قال  عبد الله بن المبارك   : حدثنا صالح المري  ، عن قتادة  ، عن ابن عباس  أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله    ) الآية ، رواه ابن أبي حاتم  ، عن الحسن بن محمد بن الصباح  ، عن حسين المروزي  ، عن ابن المبارك  به . 
ثم قال هو ومسلم   : حدثنا  يونس بن عبد الأعلى  ، أخبرنا ابن وهب  ، أخبرني عمرو بن الحارث  ، عن سعيد بن أبي هلال - يعني الليث -  عن عون بن عبد الله  ، عن أبيه ، عن ابن مسعود  ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله   ) [ الآية ] إلا أربع سنين 
كذا رواه مسلم  في آخر الكتاب . وأخرجه  النسائي  عند تفسير هذه الآية ، عن هارون بن سعيد الأيلي  ، عن ابن وهب  ، به ، وقد رواه ابن ماجه  من حديث موسى بن يعقوب الزمعي  ، عن أبي حزم  ، عن  عامر بن عبد الله بن الزبير  ، عن أبيه ، مثله ، فجعله من مسند بن الزبير   . لكن رواه البزار  في مسنده من طريق موسى بن يعقوب  ، عن أبي حازم  ، عن عامر  ، عن ابن الزبير  ،  [ ص: 20 ] عن ابن مسعود  ، فذكره 
وقال  سفيان الثوري  ، عن المسعودي  ، عن القاسم  قال : مل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص   ) [ يوسف : 3 ] قال : ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : ( الله نزل أحسن الحديث   ) [ الزمر : 23 ] . ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله   ) 
وقال قتادة   : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله   ) ذكر لنا أن شداد بن أوس  كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أول ما يرفع من الناس الخشوع  " 
وقوله : ( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم   ) نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد . 
( وكثير منهم فاسقون   ) أي : في الأعمال ، فقلوبهم فاسدة ، وأعمالهم باطلة . كما قال : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به   ) [ المائدة : 13 ] ، أي : فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهوا عنه ; ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية . 
وقد قال بن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار  ، حدثنا  شهاب بن خراش  ، حدثنا حجاج بن دينار  ، عن  منصور بن المعتمر  ، عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري  قال : حدثنا  عبد الله بن مسعود  حديثا ما سمعت أعجب إلي منه ، إلا شيئا من كتاب الله ، أو شيئا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا : تعالوا ندع  [ ص: 21 ] بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا قتلناه . ففعلوا ذلك ، وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه ، فجعله في قرن ، ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه . فدعوا فلانا ذلك الفقيه فقالوا : تؤمن بما في كتابنا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه علي . فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم ، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن - فتركوه ، فلما مات نبشوه فوجدوه متعلقا ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة . فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن " . 
قال ابن مسعود   : [ وإنكم ] أوشك بكم إن بقيتم - أو : بقي من بقي منكم - أن تروا أمورا تنكرونها ، لا تستطيعون لها غيرا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره . 
وقال أبو جعفر الطبري   : حدثنا ابن حميد  ، حدثنا جرير  ، عن مغيرة  ، عن أبي معشر  ، عن إبراهيم  قال : جاء عتريس بن عرقوب  إلى ابن مسعود  فقال : يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر . فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا ; إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه . قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به - ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه - ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن 
وقوله : ( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون   ) فيه إشارة إلى أنه ، تعالى ، يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلتها  ، ويفرج الكروب بعد شدتها ، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان [ الوابل ] كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذي هو لما يشاء فعال ، وهو الحكم العدل في جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال . 
				
						
						
