روي أن عمر بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاما من الأنصار يقال له : مدلج ، وكان نائما فدق عليه الباب ودخل ، فاستيقظ [ ص: 472 ] وجلس فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن . ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا . وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد ، قيل : دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالا نكرهها .
( ليستأذنكم ) أمر ، والظاهر حمله على الوجوب ، والجمهور على الندب . وقيل : بنسخ ذلك ; إذ صار للبيوت أبواب ، روي ذلك عن ابن عباس ، والظاهر عموم ( وابن المسيب الذين ملكت أيمانكم ) في العبيد والإماء ، وهو قول الجمهور ، وقال وآخرون : العبيد دون الإماء ، وقال ابن عمر السلمي : الإماء دون العبيد . ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) عام في الأطفال عبيدا كانوا أو أحرارا . وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة : ( الحلم ) بسكون اللام ، وهي لغة تميم . وقيل : ( منكم ) أي : من الأحرار ذكورا كانوا أو إناثا . والظاهر من قوله : ( ثلاث مرات ) ثلاث استئذانات ; لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - : " الاستئذان ثلاث " ، والذي عليه الجمهور أن معنى : ( ثلاث مرات ) ثلاث أوقات ، وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيرا لقوله : ( ثلاث مرات ) ، ولا يتعين ذلك بل تبقى ( ثلاث مرات ) على مدلولها .
( من قبل صلاة الفجر ) ; لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة ، وقد ينكشف النائم . ( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) ; لأنه وقت وضع الثياب للقائلة ; لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت . ومن في ( من الظهيرة ) قال أبو البقاء : لبيان الجنس ، أي : حين ذلك هو الظهيرة ، قال : أو بمعنى من أجل حر الظهيرة ، و ( حين ) معطوف على موضع ( من قبل ) ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) ; لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ، ( ثلاث عورات لكم ) سمى كل واحد منها عورة ; لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها ، والعورة الخلل ، ومنه أعور الفارس وأعور المكان ، والأعور المختل العين . وقرأ حمزة : ( ثلاث ) بالنصب ، قالوا : بدل من ( والكسائي ثلاث عورات ) ، وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات ثلاث عورات ، وقال ابن عطية : إنما يصح يعني البدل بتقدير أوقات عورات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقرأ باقي السبعة بالرفع أي : هن ( ثلاث عورات ) ، وقرأ ( عورات ) بفتح الواو ، وتقدم أنها لغة الأعمش هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع ( ثلاث ) .
قال : يكون ( ليس عليكم ) الجملة في محل رفع على الوصف ، والمعنى هن ( الزمخشري ثلاث عورات ) مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة .
( بعدهن ) أي : بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر ، وقيل : ( ليس ) على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول ( عليكم ) بغير استئذان ( جناح ) بعد هذه الأوقات الثلاث . ( طوافون عليكم ) يمضون ويجيئون ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره هم ( طوافون ) أي : المماليك والصغار ( طوافون عليكم ) أي : يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات . وجوزوا في ( بعضكم على بعض ) أن يكون مبتدأ وخبرا ، لكن الجر قدروه طائف على بعض ، وهو كون مخصوص ; فلا يجوز حذفه . قال : وحذف لأن ( الزمخشري طوافون ) يدل عليه وأن يكون مرفوعا بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم . وقال ابن عطية : ( بعضكم ) بدل من قوله : ( طوافون ) ، لا يصح ; لأنه إن أراد بدلا من ( طوافون ) نفسه فلا يجوز ; لأنه يصير التقدير هم ( بعضكم على بعض ) وهذا معنى لا يصح . وإن جعلته بدلا من الضمير في ( طوافون ) فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم ; لأنه يصير التقدير هم يطوف ( بعضكم على بعض ) [ ص: 473 ] وهو لا يصح . فإن جعلت التقدير أنتم يطوف ( عليكم بعضكم على بعض ) فيدفعه أن قوله : ( عليكم ) بدل على أنهم هم المطوف عليهم ، وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فتعارضا . وقرأ ( طوافين ) بالنصب على الحال من ضمير ( عليهم ) . وقال ابن أبي عبلة الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ، ولا في هذه الأوقات الثلاثة .
( وإذا بلغ الأطفال ) أي : من أولادكم وأقربائكم ، ( فليستأذنوا ) أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات . ( كما استأذن الذين من قبلهم ) يعني البالغين . وقيل : الكبار من أولاد الرجل وأقربائه . ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا فيما به البلوغ ، وهي مسألة تذكر في الفقه . كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ .
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن ، استثني ( القواعد من النساء ) اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن ، فقال : ( والقواعد ) ، وهو جمع قاعد من صفات الإناث . وقال : امرأة قاعد قعدت عن الحيض . وقال ابن السكيت ابن قتيبة : سمين بذلك ; لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود . وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج . وقيل : قعدن عن الحيض والحبل . و ( ثيابهن ) الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت : امرأة واضع ، أي : وضعت خمارها . ( غير متبرجات بزينة ) أي : غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال .
( وأن يستعففن ) عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن . ( والله سميع ) لما يقول كل قائل ، ( عليم ) بالمقاصد . وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير .
عن لما نزل ( ابن عباس ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) ، تحرج المسلمون عن ; لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج ; لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض ; لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام ، فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ، ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه . وقال مواكلة الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم ، تحرجوا من أكل مال الغائب ، فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك . وقال وابن المسيب مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب بهم إلى بيوت قراباته ، فتحرج أهل الأعذار من ذلك ، فنزلت . وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار ، فبعضهم تقذرا لمكان جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت واستبعد هذا ; لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ، ولم يكن ( ليس على الأعمى حرج ) وأجاب بعضهم بأن ( على ) في معنى في أي في مواكلة الأعمى ، وهذا بعيد جدا . وفي كتاب الزهراوي عن أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم ، فنزلت . وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم . وقال ابن عباس الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف . وإن كانا قد اجتمعا في انتفاء الحرج . وهذا القول [ ص: 474 ] هو الظاهر . ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر ( بيوتكم ) ; لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته بيته . وفي الحديث " " . إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه
ومعنى : ( من بيوتكم ) . من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى . وقرأ طلحة إمهاتكم ، بكسر الهمزة . ( أو ما ملكتم مفاتحه ) . قال : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن . وقال ابن عباس قتادة : العبد ; لأن ماله لك . وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها . وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها . وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر ما قال تعالى : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) ، ومفاتحه بيده .
وقرأ الجمهور : ( ملكتم ) ، بفتح الميم واللام خفيفة . وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة ، والجمهور ( مفاتحه ) جمع مفتح ، ( مفاتيحه ) جمع مفتاح ، وابن جبير وقتادة ، وهارون ، عن أبي عمرو : ( مفتاحه ) مفردا . ( أو صديقكم ) قرئ بكسر الصاد إتباعا لحركة الدال ، حكاه حميد الخزاز ، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة . قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي . وقال معمر : قلت لقتادة : ألا أشرب من هذا الحب ؟ قال : أنت لي صديق ; فما هذا الاستئذان . وقال : الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين ( ابن عباس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، ومعنى : ( أو صديقكم ) أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب ، فجاء فسر بذلك ، وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك . وعن : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ . وقال جعفر الصادق : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه . وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح . هشام بن عبد الملك
وانتصب ( جميعا أو أشتاتا ) على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده . وقال بعض الشعراء :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي
وقال عكرمة : في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه . وقيل في قوم تحرجوا أن يأكلوا جميعا مخافة أن يزيد أحدهم على الآخر في الأكل . وقيل ( أو صديقكم ) هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب . وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله - عليه السلام - " " وبقوله - عليه السلام - من حديث ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام : " ابن عمر " وبقوله تعالى : ( لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا ) الآية .
( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) . قال ابن عباس والنخعي : المساجد ، فسلموا على من فيها ، فإن لم يكن فيها أحد قال : السلام على رسول الله . وقيل : يقول : السلام عليكم ، يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقال جابر ، وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة ، وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقال : بيوتا خالية . وقال ابن عمر : ( السدي على أنفسكم ) ، على أهل دينكم . وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم . وقيل : بيوت الكفار ( فسلموا على أنفسكم ) ، وقال : ( الزمخشري فإذا دخلتم بيوتا ) [ ص: 475 ] من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم دينا وقرابة . و ( تحية من عند الله ) ، أي : ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب ; لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق ، انتهى . وقال مقاتل : ( مباركة ) بالأجر . وقيل : بورك فيها بالثواب . وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون . وانتصب ( تحية ) بقوله : ( فسلموا ) ; لأن معناه فحيوا كقولك : قعدت جلوسا .