لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعا ، ذكر بعدها العالم الأكبر ، وهو السماوات والأرض ; ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان . ثم أتبعه بذكر المعاد ، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل ، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة ، ومع ذلك جعل تعالى للماء قوة يحملها بها ويمنع من الغوص ، ثم جعل الرياح سببا لسيرها ، فإذا أراد أن ترسو ، أسكن الريح ، فلا تبرح عن مكانها . و ( الجواري ) جمع جارية ، وأصله السفن الجواري ، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه ، وحسن ذلك قوله : ( في البحر ) ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن ، وإلا فهي صفة غير مختصة ، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه . ويمكن أن يقال : إنها صفة غالبة ، كالأبطح ، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف . وقرئ ( الجواري ) بالياء ودونها ، وسمع من العرب الإعراب في الراء ، و ( في البحر ) متعلق بالجواري ، و ( كالأعلام ) في موضع الحال ، والأعلام : الجبال ، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
ومنه :
إذا قطعن علما بدا علم
وقرأ جمهور السبعة : ( الريح ) إفرادا ، ونافع : جمعا ، وقرأ الجمهور : ( فيظللن ) بفتح اللام ، وقرأ قتادة : بكسرها ، والقياس الفتح ؛ لأن الماضي بكسر العين ، فالكسر في المضارع شاذ . وقال : من ظل يظل ويظل ، نحو ضل يضل ويضل . انتهى . الزمخشري
وليس كما ذكر ؛ لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي ، وكلاهما مقيس .
( لكل صبار ) على بلائه ، ( شكور ) لنعمائه .
( أو يوبقهن ) : يهلكهن ، أي : الجواري ، وهو عطف على ( يسكن ) ، والضمير في ( كسبوا ) عائد على ركاب السفن ، أي : بذنوبهم . وقرأ ( ويعفو ) بالواو ، وعن الأعمش أهل المدينة : بنصب الواو ، والجمهور ( ويعف ) مجزوما عطفا على ( يوبقهن ) . فأما قراءة الأعمش ، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير ، أي : لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان . وأما النصب ، فبإضمار أن بعد الواو ، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ ( يحاسبكم به الله فيغفر ) وبعد الواو في قول الشاعر :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
روي بنصب ( ونأخذ ) ورفعه وجزمه .
وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم ، أي : يقع إيباق وعفو عن كثير . وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط ؛ إذ هو معطوف عليه ، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب ، لكن هذا عطف فعل على فعل ، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم .
وقال القشيري : وقرئ : ( ويعف ) بالجزم ، وفيها إشكال ؛ لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح ، فتبقى [ ص: 521 ] تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف ( ويعف ) على هذه ؛ لأن المعنى يصير إن يشأ يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى : الإخبار عن الغيوب عن شرط المشيئة ، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ ، لا من حيث المعنى .
وقد قرأ قوم ( ويعفو ) بالرفع ، وهي جيدة في المعنى . انتهى ، وما قاله ليس بجيد ؛ إذ لم يفهم مدلول التركيب . والمعنى : أنه تعالى إن يشأ أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم .
وقال : ( فإن قلت ) : علام عطف يوبقهن ؟ ( قلت ) : على ( يسكن ) لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها . انتهى . الزمخشري
ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن ؛ لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها تعالى بسبب غير الريح ، كنزول سطحها بكثرة الثقل ، أو انكسار اللوح يكون سببا لإهلاكها ، أو يعرض عدو يهلك أهلها . وقرأ ، الأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عامر ، : ( ويعلم ) بالرفع على القطع . وقرأ الجمهور ( ويعلم ) بالنصب ; قال وزيد بن علي أبو علي : وحسن النصب إذا كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب .
وقال : على إضمار أن ؛ لأن قبلها جزاء . تقول : ما تصنع أصنع مثله ، وأكرمك ، وإن شئت : وأكرمك ، على : وأنا أكرمك ، وإن شئت : وأكرمك جزما . الزجاج
قال : فيه نظر ، لما أورده الزمخشري في كتابه قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله : سيبويه
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا لا يجوز ، وليس بحد الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل .
فلما ضارع الذي لا يوجبه ، كالاستفهام ونحوه ، أجازوا فيه هذا على ضعفه . قال : ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب ، لما أخلى الزمخشري منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة . انتهى . سيبويه
وخرج النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف ، قال : تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله تعالى : ( الزمخشري ولنجعلك آية للناس ) ، وقوله : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) ، ( ولتجزى كل نفس بما كسبت ) . انتهى .
ويبعد تقديره لينتقم منها ؛ لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، فلا يحسن لينتقم منهم . وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف ، أي : ( ولنجعله آية للناس ) ، ( ولتجزى كل نفس بما كسبت ) . فعلنا ذلك ، وكثيرا ما يقدر هذا الفعل محذوفا قبل لام العلة ، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به .
وذكر أن قوله تعالى : ( ويعلم ) قرئ بالجزم ، ( فإن قلت ) : فكيف يصح المعنى على جزم ( ويعلم ) ؟ ( قلت ) : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين ؛ لأن قوله : ( الزمخشري ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص ) يتضمن تحذيرهم من عقاب الله ، و ( ما لهم من محيص ) في موضع نصب ؛ لأن ( يعلم ) معلقة ، كقولك : علمت ما زيد قائم . وقال ابن عطية في قراءة النصب : وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف ؛ لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر ، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر ، فيحسن عطفه على الاسم . انتهى .
وليس قوله تعليلا لقولهم : واو الصرف ، إنما هو تقرير لمذهب البصريين . وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها ، لا بإضمار أن بعدها .
وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران : ( ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ، ومعنى الصرف أنه كان على جهة فصرف إلى غيرها ، فتغير الإعراب لأجل الصرف . والعطف لا يعين الاقتران في الوجود ، كالعطف في الاسم ، نحو : جاء زيد وعمرو . ولو نصب ( وعمرو ) اقتضى الاقتران ; [ ص: 522 ] وكذلك واو الصرف ، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع ، ولذلك أجمع على النصب في قوله : ( ويعلم الصابرين ) ، أي : ويعلم المجاهدين والصابرين معا .
عن علي - رضي الله عنه - اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال ، فتصدق به كله في سبيل الله والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت : ( فما أوتيتم من شيء ) ، والظاهر أنه خطاب للناس .
وقيل : للمشركين ، وما شرطية مفعول ثان لـ ( أوتيتم ) ، و ( من شيء ) بيان لما ، والمعنى : من شيء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها ، والفاء جواب الشرط ، أي : فهو متاع ، أي : يستمتع في الحياة .
( وما عند الله ) أي : من ثوابه وما أعد لأوليائه ، ( خير وأبقى ) مما أوتيتم ؛ لأنه لا انقطاع له . وتقدم الكلام في الكبائر في قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) ، في النساء . وقرأ الجمهور : ( كبائر ) جمعا هنا ، وفي النجم ، وحمزة ، : بالإفراد . والكسائي
( والذين يجتنبون ) : عطف على ( الذين آمنوا ) ، وكذلك ما بعده . ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة ، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو ، فبنى عليه الإعراب فقال : ( الذين يجتنبون ) في موضع جر بدلا من ( الذين آمنوا ) ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار ، أعني : وفي موضع رفع على تقدير هم . انتهى .
والعامل في ( إذا ) ( يغفرون ) وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على ( يجتنبون ) ويجوز أن يكون ( هم ) توكيدا للفاعل في ( غضبوا ) .
وقال أبو البقاء ( هم ) مبتدأ ، و ( يغفرون ) الخبر ، والجملة جواب ( إذا ) . انتهى ، وهذا لا يجوز ؛ لأن الجملة لو كانت جواب ( إذا ) لكانت بالفاء ، تقول : إذا جاء زيد فعمرو منطلق ، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر . وقيل : ( هم ) مرفوع بفعل محذوف يفسره ( يغفرون ) ولما حذف انفصل الضمير ، وهذا القول فيه نظر ، وهو أن جواب ( إذا ) يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها ، نحو : ( إذا السماء انشقت ) ، ولا يبعد جواز ذلك على مذهب ، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة ، نحو : إن ينطلق زيد ينطلق ، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب ، أي : ينطلق زيد ، منع ذلك سيبويه الكسائي . وقال والفراء : هم يغفرون ، أي : هم الأخصاء بالغفران ، في حال الغضب لا يغول الغضب أحلامهم ، كما يغول حلوم الناس . والمجيء لهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد ( يغفرون ) إليه لهذه الفائدة . انتهى ، وفيه حض على كسر الغضب . الزمخشري
وفي الحديث : " " . أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب
( والذين استجابوا لربهم ) ، قيل : نزلت في الأنصار ، دعاهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له . وكانوا قبل الإسلام ، وقبل أن يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، إذا نابهم أمر تشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه .
وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم . انتهى .
وفي الشورى اجتماع الكلمة والتحاب والتعاضد على الخير . وقد شاور الرسول - عليه السلام - فيما يتعلق بمصالح الحروب ، والصحابة بعده في ذلك ، كمشاورة عمر للهرمز . وفي الأحكام ، كقتال أهل الردة ، وميراث الحربي ، وعدد مدمني الخمر ، وغير ذلك .
والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، على حذف مضاف ، أي : وأمرهم ذو شورى بينهم . و ( هم ينتصرون ) : صلة للذين ، وإذا معمولة لـ ( ينتصرون ) ، ولا يجوز أن يكون ( هم ينتصرون ) جوابا لـ ( إذا ) والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء ، ويجوز هنا أن يكون ( هم ) فاعلا بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في ( هم يغفرون ) . وقال الحوفي : وإن شئت جعلت ( هم ) توكيدا للهاء والميم ، يعني في ( أصابهم ) وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل ، وهو فعل ، الظاهر أنه لا يمتنع ، والانتصار : أن يقتصر على ما حده الله له ولا يعتدي .
وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترئ عليهم الفساق ، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود . وقال مقاتل ، وهشام عن عروة : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص . وقال [ ص: 523 ] : تعدى المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، وأخرجوهم من ابن عباس مكة ، فأذن الله لهم بالخروج في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم .
وقال الكيا الطبري : ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله ولرسوله وإقامة الصلاة ؟ فهذا على ما ذكره النخعي ، وهذا فيمن تعدى وأصر ، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا . وقد قال عقيب هذه الآية ( ولمن انتصر بعد ظلمه ) الآية ، فيقتضي إباحة الانتصار . وقد عقبه بقوله : ( ولمن صبر وغفر ) ، وهذا محمول ، على القرآن عند غير المصر . فأما المصر على البغي ، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها . وقال ابن بحر : المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم .
وقال نحوا من قول أبو بكر بن العربي الكيا .
قال الجمهور : إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه ، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه . وقالت فرقة : له ذلك .
( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) : هذا بيان للانتصار ، أي : لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه .
قال ، ابن أبي نجيح والسدي : إذا شتم فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى ، وسمي القصاص سيئة على سبيل المقابلة ، أو لأنها تسوء من اقتص منه ، كما ساءت الحيض . وظاهر قوله : ( مثلها ) المماثلة مطلقا في كل الأحوال ، لا فيما خصه الدليل . والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس .
قال مجاهد ، والسدي : إذا قال له : أخزاك الله ، فليقل : أخزاك الله ، وإذا قذفه قذفا يوجب الحد ، بل الحد الذي أمره الله به .
( فمن عفا وأصلح ) أي : بينه وبين خصمه بالعفو ، ( فأجره على الله ) : عدة مبهمة لا يقاس عظمها ؛ إذ هي على الله .
( إنه لا يحب الظالمين ) أي : الخائنين ، وإذا كان لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه ، فالعفو الذي يحبه الله أولى أن يعفي عنه ، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجني عليهم ، إذا انتصروا خصوصا في حالة الحرب والتهاب الحمية ، فربما يظلم وهو لا يشعر .
وفي الحديث : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له أجر على الله فليقم ، قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله ؟ فيقولون : نحن عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله " .
واللام في ( ولمن انتصر ) لام توكيد . قال الحوفي : وفيها معنى القسم . وقال ابن عطية : لام التقاء القسم ، يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم ، فالقسم قبلها محذوف ، ومن شرطية ، وحمل ( انتصر بعد ظلمه ) على لفظ ( من ) و ( فأولئك ) على معنى ( من ) والفاء جواب الشرط ، و ( ظلمه ) مصدر مضاف إلى المفعول .
قال : ويفسره قراءة من قرأ ( بعد ما ظلم ) . الزمخشري
( ما عليهم من سبيل ) ، قيل أي : من طريق إلى الحرج ; وقيل : من سبيل للمعاقب ، ولا المعاتب والعاتب ، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار .
( إنما السبيل ) أي : سبيل الإثم والحرج ، ( على الذين يظلمون ) أي : يبتذلون بالظلم ، ( ويبغون في الأرض ) أي : يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون . وقيل : ( ويظلمون الناس ) أي : يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان .
والبغي بغير الحق ، فهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه . انتهى .
( ولمن صبر ) أي : على الظلم والأذى ، ( وغفر ) ، ولم ينتصر . واللام في ( ولمن ) يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف ، ومن شرطية ، وجواب القسم قوله : ( إن ذلك ) ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه .
ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن موصولة مبتدأ ، والجملة المؤكدة بإن في موضع الخبر .
وقال الحوفي : ( من ) رفع بالابتداء وأضمر الخبر ، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء ، كما قال الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
أي : فالله يشكرها . انتهى ، وهذا ليس بجيد ؛ لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند . والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر ، والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف ، أي : إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه : ( سيبويه لمن عزم الأمور ) ، إن كان ذلك [ ص: 524 ] إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : ( ولمن صبر وغفر ) ، لم يكن في ( عزم الأمور ) حذف ، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ ، كان هو الرابط ، ولا يحتاج إلى تقدير منه ، وكان في ( عزم الأمور ) ، أي : إنه لمن ذوي عزم الأمور .
وسب رجل آخر في مجلس الحسن ، فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ، ثم قام فتلا الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها لم هذه ضيعها الجاهلون .
والجملة من قوله : ( إنما السبيل ) اعتراض بين قوله : ( ولمن انتصر ) ، وقوله : ( ولمن صبر ) .
( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ) أي : من ناصر يتولاه ( من بعده ) أي : من بعد إضلاله ، وهذا تحقير لأمر الكفرة .
( وترى الظالمين ) : الخطاب للرسول ، والمعنى : وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة ، ( لما رأوا العذاب ) ، يقولون : ( هل إلى مرد من سبيل ) : هل سبيل إلى الرد للدنيا ؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه ، وسوء ما يحل بهم .
( وتراهم يعرضون عليها ) أي : على النار ، دل عليها ذكر العذاب ، ( خاشعين ) متضائلين صاغرين مما يلحقهم ، ( من الذل ) .
وقرأ طلحة : ( من الذل ) ، بكسر الذال ; والجمهور : بالضم ، والخشوع : الاستكانة ، وهو محمود . وإنما أخرجه إلى الذم اقترانه بالعذاب . وقيل : ( من الذل ) متعلق بـ ( ينظرون من طرف خفي ) .
قال : ذليل . انتهى . ابن عباس
قيل : ووصف بالخفاء ؛ لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية ، قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير
وقيل : يحشرون عميا . ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم ، جعله طرفا خفيا ، أي : لا يبدو نظرهم ، وهذا التأويل فيه تكلف .
وقال ، السدي وقتادة : المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهم وسوء الحال ، لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها ، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدرا ، أي : من نظر خفي . وقال : ( الزمخشري من طرف خفي ) ، أي : يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصور ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها ، كما يفعل في نظره إلى المتحاب .