[ ص: 194 ] لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض ، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة والجزاء وقال : ( سنفرغ لكم ) : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه . وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى : سيقصد لحسابكم ، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد التوفر على الانتقام منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا ، والأول أبين . انتهى ، يعني : أن يكون ذلك يوم القيامة . وقال : ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله : ( الزمخشري كل يوم هو في شأن ) ، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل . انتهى . والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلا به ، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قيل : إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم ، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير :
الان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لهم عذابا
أي : قصدت . وأنشد النحاس :فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث : " فرغ ربك من أربع " ، وفيه : " لأتفرغن إليك يا خبيث " ، يخاطب به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إرب العقبة يوم بيعتها : أي لأقصدن إبطال أمرك ، نقل هذا عن الخليل والكسائي . وقرأ الجمهور : سنفرغ بنون العظمة وضم الراء ، من فرغ بفتح الراء ، وهي لغة والفراء الحجاز ; وحمزة والكسائي وأبو حيوة : بياء الغيبة ; وزيد بن علي وقتادة : بالنون وفتح الراء ، مضارع فرغ بكسرها ، وهي تميمية ; والأعرج وأبو السمال وعيسى : بكسر النون وفتح الراء . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر . والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما ; وابن أبي عبلة والزعفراني : بضم الياء وفتح الراء ، مبنيا للمفعول ; وعيسى أيضا : بفتح النون وكسر الراء . أيضا : بفتح الياء والراء ، وهي رواية والأعرج يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو . والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض ، أو لكونهما مثقلين بالذنوب ، أو لثقل الإنس . وسمي الجن ثقلا لمجاورة الإنس ، والثقل : الأمر العظيم . وفي الحديث : " " ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما . إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
والظاهر أن قوله : ( يامعشر ) الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة ، ( يوم التناد ) . وقيل : يقال لهم ذلك . قال الضحاك : يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول ، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاءوا ، فحينئذ يقال لهم ذلك . وقيل : هو خطاب في الدنيا ، والمعنى : إن استطعتم الفرار من الموت . وقال : ( ابن عباس إن استطعتم ) بأذهانكم وفكركم ، ( أن تنفذوا ) ، فتعلمون علم ( أقطار ) : أي جهات ( السماوات والأرض ) . قال : ( الزمخشري يامعشر الجن والإنس ) ، كالترجمة لقوله : ( أيها الثقلان ) ، ( إن استطعتم ) أن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ; ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ( إلا بسلطان ) ، يعني : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) . انتهى . ( فانفذوا ) : أمر تعجيز . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك . وقال الضحاك أيضا : بينما الناس في أسواقهم ، انفتحت السماء ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة . وقرأ : إن استطعتما ، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس ; والجمهور : على خطاب [ ص: 195 ] الجماعة إن استطعتم ، لأن كلا منهما تحته أفراد كثيرة ، كقوله : ( زيد بن علي وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) .
( يرسل عليكما شواظ ) ، قال : إذا خرجوا من قبورهم ، ساقهم شواظ إلى المحشر . والشواظ : لهب النار . وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع . وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب . وقرأ الجمهور : شواظ ، بضم الشين ; وعيسى وابن كثير وشبل : بكسرها . والجمهور ; ( ابن عباس ونحاس ) : بالرفع ; وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو : بالجر ; والكلبي وطلحة ومجاهد : بكسر نون " نحاس " والسين . وقرأ ابن جبير : ونحس ، كما تقول : يوم نحس . وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا : ونحس مضارعا ، وماضيه حسه ، أي قتله ، أي ويحس بالعذاب . وعن ابن أبي إسحاق أيضا : ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير ; وحنظلة بن نعمان : ونحس بفتح النون وكسر السين ; والحسن وإسماعيل : ونحس بضمتين والكسر . وقرأ : نرسل بالنون ، عليكما شواظا بالنصب ، من نار ونحاسا بالنصب عطفا على شواظا . قال زيد بن علي ابن عباس : والنحاس الدخان . وعن وابن جبير أيضا ابن عباس ومجاهد : هو الصفر المعروف ، والمعنى : يعجز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا ، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه .
( فإذا انشقت السماء ) : جواب إذا محذوف ، أي فما أعظم الهول ، وانشقاقها : انفطارها يوم القيامة . ( فكانت وردة ) : أي محمرة كالورد . قال ابن عباس وأبو صالح : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون السماء مؤنثة . وقال قتادة : هي اليوم زرقاء ، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلون الورد ، وهي النوار المعروف ، قاله ، ويريد كلون الورد ، وقال الشاعر : الزجاج
فلو كنت وردا لونه لعشقتني ولكن ربي شانني بسواديا
وأجرد من كرام الخير طرف كأن على شواكله دهانا
وقال الشاعر : كالدهان المختلفة ، لأنها تتلون ألوانا . وقال الضحاك : كالدهان خالصة ، جمع دهن ، كقرط وقراط . وقيل : تصير حمراء من حرارة جهنم ، ومثل الدهن لذوبها ودورانها . وقيل : شبهت بالدهان في لمعانها . وقال : ( الزمخشري كالدهان ) : كدهن الزيت ، كما قال : ( كالمهل ) ، وهو دردي الزيت ، وهو جمع دهن أو اسم ما يدهن به ، كالحرام والأدام ، قال الشاعر :
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما سلعا بدهان
وقرأ : وردة بالرفع بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : عبيد بن عمير
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة نحو المغانم أو يموت كريم
انتهى .
( فيومئذ ) : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير : فيوم إذ انشقت السماء ، والناصب ليومئذ ( لا يسأل ) ، ودل هذا على انتفاء السؤال ، ( وقفوهم إنهم مسئولون ) وغيره من الآيات على وقوع السؤال . فقال عكرمة وقتادة : هي مواطن يسأل في بعضها . وقال : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفى فهي استخبار محض عن الذنب ، والله تعالى أعلم بكل شيء . وقال ابن عباس قتادة أيضا : كانت مسألة ، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون . وقال أبو العالية وقتادة : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقرأ الحسن وعمرو بن [ ص: 196 ] عبيد : ولا جأن بالهمز ، فرارا من التقاء الساكنين ، وإن كان التقاؤهما على حده . وقرأ : بسيمائهم ; والجمهور : ( حماد بن أبي سليمان بسيماهم ) ، وسيما المجرمين : سواد الوجوه وزرقة العيون ، قاله الحسن ، ويجوز أن يكون غير هذا من التشويهات ، كالعمى والبكم والصمم . ( فيؤخذ بالنواصي والأقدام ) ، قال : يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ ، ويجمع كالحطب ، ويلقى كذلك في النار . وقال ابن عباس الضحاك : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره . وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام . وقيل : بعضهم سحبا بالناصية ، وبعضهم سحبا بالقدم ; ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه ، وحذف هذا الفاعل والمفعول ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمنا معنى ما يعدى بالباء ، أي فيسحب بالنواصي والأقدام ، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير ، أي بنواصيهم وأقدامهم ، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف ، أي بالنواصي والأقدام منهم .
( هذه جهنم ) : أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع . ( يطوفون بينها ) : أي يترددون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها . وقال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم ، وآن : أي منتهى الحر والنضج ، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار ، وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار ، جعل غياثهم الحميم . وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه ، وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا . وقرأ علي والسلمي : يطافون ; والأعمش وطلحة وابن مقسم : يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة . وقرئ : يطوفون ، أي يتطوفون . والجمهور : يطوفون مضارع طاف .
قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، قال ابن الزبير : نزلت في أبي بكر . ( مقام ربه ) مصدر ، فاحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل ، أي قيام ربه عليه ، وهو مروي عن مجاهد ، قال : من قوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، أي حافظ مهيمن ، فالعبد يراقب ذلك ، فلا يجسر على المعصية . وقيل : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيه العباد للحساب ، من قوله : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ، وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف . وقيل : مقام مقحم ، والمعنى : ولمن خاف ربه ، كما تقول : أخاف جانب فلان يعني فلانا . والظاهر أن لكل فرد من الخائفين ( جنتان ) ، قيل : إحداهما منزله ، والأخرى لأزواجه وخدمه . وقال مقاتل : جنة عدن ، وجنة نعيم . وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته . وقيل : هما للخائفين ; والخطاب للثقلين ، فجنة للخائف الجني ، وجنة للخائف الإنسي . وقال : جنة من ذهب للسابقين ، وجنة من فضة للتابعين . وقال أبو موسى الأشعري : ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف دائر عليهما . وأن يقال : جنة يبات بها ، وأخرى يضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة ; وخص الأفنان بالذكر جمع فنن ، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر ، لأنها التي تورق وتثمر ، ومنها تمتد الظلال ، ومنها تجنى الثمار . وقيل : الأفنان جمع فن ، وهي ألوان النعم وأنواعها ، وهو قول الزمخشري ، والأول قال قريبا منه ابن عباس مجاهد وعكرمة ، وهو أولى ، لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين ، وفن يجمع على فنون .
( فيهما عينان تجريان ) ، قال : هما عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة . وقال : تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة . وقال ابن عباس الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل . وقال ابن عطية : إحداهما من ماء ، والأخرى من خمر . وقيل : تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك . ( زوجان ) ، قال : ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، [ ص: 197 ] حتى شجر الحنظل ، إلا أنه حلوا . انتهى . ومعنى زوجان : رطب ويابس ، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة . وقيل : صنفان ، صنف معروف ، وصنف غريب . وجاء الفصل بين قوله : ( ابن عباس ذواتا أفنان ) وبين قوله : ( فيهما من كل فاكهة ) بقوله : ( فيهما عينان تجريان ) . والأفنان عليها الفواكه ، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجري الأنهار ، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل . وانتصب ( متكئين ) على الحال من قوله : ( ولمن خاف ) ، وحمل جمعا على معنى من . وقيل : العامل محذوف ، أي يتنعمون متكئين . وقال : أي نصب على المدح ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى : ( متكئين ) في منازلهم ( الزمخشري على فرش ) . وقرأ الجمهور : فرش ، بضمتين ; وأبو حيوة : بسكون الراء . وفي الحديث : " قيل لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هذه البطائن من إستبرق ، كيف الظهائر ؟ قال : هي من نور يتلألأ " ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره . وقيل : من سندس . قال الحسن : البطائن هي الظهائر . وروي عن والفراء قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة ، لأن كلا منهما يكون وجها ، والعرب تقول : هذا وجه السماء ، وهذا بطن السماء .