والذي أختاره هذا الوجه ، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين [ ص: 361 ] أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام . وأمعنت في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله : ( وكفر به ) ، و ( المسجد الحرام ) ، وليس مختلا من حيث اللفظ ; لأنا قد استدللنا على جواز ذلك ، ولا من حيث المعنى كما زعم ؛ بل المعنى عليه ، ويكون على تقدير حذف ; أي يفتيكم في متلوهن ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة ; إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلوا فيهن صحت الإضافة إليهما . ومن ذلك قول الشاعر : الزمخشري
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
وأما قول : لاختلاله في اللفظ والمعنى ، فهو قول الزمخشري بعينه . قال الزجاج : وهذا بعيد ; لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى ; أما للفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر ؛ وذلك غير جائز . كما لم يجز قوله : ( الزجاج تساءلون به والأرحام ) ، وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل ، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب . ومعلوم أنه ليس المراد ذلك ؛ وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل ، انتهى كلامه . وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف والرفع على العطف على الله ، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس . وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس ، وكذلك الجر على القسم ؛ فالنصب بإضمار فعل والعطف على الضمير يجعله تأسيسا . وإذا أراد الأمرين : التأسيس والتأكيد ، كان حمله على التأسيس هو الأولى ، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس . وتقدم الكلام في تعلق قوله : في يتامى النساء . وقال : فإن قلت : بم تعلق قوله : الزمخشري في يتامى النساء ؟ قلت : في الوجه الأول هو صلة ( يتلى ) ; أي يتلى عليكم في معناهن : ويجوز أن يكون ( في يتامى النساء ) بدلا من ( فيهن ) . وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير ، انتهى كلامه . ويعني بقوله في الوجه الأول : أن يكون وما يتلى في موضع رفع ؛ فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى ؛ فلا يتصور إلا إن كان ( في يتامى ) بدلا من ( في الكتاب ) ، أو تكون في للسبب ; لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد ؛ فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف . وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضا من أن في يتامى بدل من فيهن ؛ فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف . ونظير هذا التركيب : زيد يقيم في الدار ، وعمرو في كسر منها ؛ ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف والتركيب المعهود : زيد يقيم في الدار في كسر منها وعمرو . واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أن هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة ، وهو قوله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) ، وقوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) ، وقوله : [ ص: 362 ] ( كبيرا وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الآية يعني : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أولا ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء ؛ فنزلت : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) ، وما يتلى عليكم ؛ فعلى ما قاله المفسرون ، وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ، ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي ; لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت . والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العام ; لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى . وقال الكوفيون : هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، وذلك مقرر في علم النحو .وقال : فإن قلت : الإضافة في يتامى النساء ما هي ؟ قلت : إضافة بمعنى ( من ) هي إضافة الشيء إلى جنسه ؛ كقولك : خاتم حديد ، وثوب خز ، وخاتم فضة . ويجوز الفصل ، وإتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بـ ( من ) والذي يظهر في الزمخشري يتامى النساء ، وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام ، ومعنى اللام الاختصاص . وقرأ أبو عبد الله المدني : ( في يتامى النساء ) بياءين ، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى ، فأبدل من الهمزة ياء ، كما قالوا : باهلة بن يعصر ، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله :
أثناك أن أباك غير لونه كر الليالي واختلاف الأعصر
ومعنى ما كتب لهن قال ، ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو الميراث . وقال آخرون : هو الصداق ، والمخاطب بقوله : لا تؤتونهن أولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ، ولا يعطونهن شيئا . وقيل أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ، ولا يعدلون في صدقاتهن . وقرئ : " ما كتب الله لهن " . وقال أبو عبيدة : وترغبون أن تنكحوهن ، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة ؛ فالمعنى في الرغبة في أن تنكحوهن لما لهن أو لجمالهن والنفرة ، وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن . والأول قول عائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى . وكان رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ؛ فكان إذا سأل الولي عن وليته ؛ فقيل هي غنية جميلة قال له : اطلب لها من هو خير منك ، وأعود عليها بالنفع . وإذا قيل هي دميمة فقيرة قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك . و عمر بن الخطاب المستضعفين معطوف على يتامى النساء والذي تلي فيهم قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) الآية ؛ وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ، ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث من يحمي الحوزة ، ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه . ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء ؛ كقوله : ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) ، وقيل المستضعفين هنا العبيد والإماء .
( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) هو في موضع جر عطفا على ما قبله أي وفي أن تقوموا . والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم . والقسط : العدل . وقال : ويجوز أن يكون منصوبا ؛ بمعنى ويأمركم ، أن تقوموا . وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يخلوا أحدا يهتضمهم ، انتهى . وفي ري الظمآن : ويحتمل أن يرفع ، وأن تقوموا بالابتداء ، وخبره محذوف ; أي خير [ ص: 363 ] لكم ، انتهى . وإذا أمكن حمله على غير حذف ؛ بكونه قد عطف على مجرور ، كان أولى من إضمار ناصب ؛ كما ذهب إليه الزمخشري . ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره . الزمخشري
( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) لما تقدم ذكر النساء ، ويتامى النساء والمستضعفين من الولدان والقيام بالقسط ؛ عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل من الخير بسبب من ذكر ، فيجازي عليه بالثواب الجزيل . واقتصر على ذكر فعل الخير ; لأنه هو الذي رغب فيه ، وإن كان تعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر ، ويجازي على ذلك بثوابه ، وعقابه . ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته ؛ قاله مجاهد . وبسبب ، وامرأته رافع بن خديج خولة بنت محمد بن مسلمة ، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها ؛ فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها ، وقال : إنما هي واحدة ؛ فإما أن تقوي على الأثرة وإلا طلقتك ففرت ؛ قاله عبيدة وسليمان بن يسار . أو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وابن المسيب خشيت طلاقها فقالت : لا تطلقني ، واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ؛ ففعل ؛ فنزلت ؛ قاله وسودة بنت زمعة وجماعة . ابن عباس
والخوف هنا على بابه ؛ لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف . وقيل معنى خافت علمت . وقيل ظنت . ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر ; إذ المعنى معه يصح . والنشوز : أن يجافي عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب . والإعراض : أن يقل محادثتها ، ومآنستها لطعن في سن أو دمامة ، أو شين في خلق أو خلق ، أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ، وهو أخف النشوز . فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر ، أو بذل منها له على أن يؤثرها ، وعن أن يؤثر ، وتتمسك بالعصمة ، أو على صبر على الأثرة ونحو ذلك ؛ فهذا كله مباح . ورتب رفع الجناح على توقع الخوف ، وظهور أمارات النشوز والإعراض ؛ وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى ; لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك ؛ فهو مع الوقوع أوكد ; إذ في الصلح بقاء الألفة والمودة . ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت ، وأن ترضى بالقسم لها في مدة طويلة مرة ، أو تهب له المهر أو بعضه أو النفقة ؛ والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة ؛ والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها ، وذلك جائز . سودة
وقرأ الكوفيون : ( يصلحا ) من أصلح على وزن أكرم . وقرأ باقي السبعة : يصالحا ، وأصله يتصالحا ، وأدغمت التاء في الصاد . وقرأ : يصالحا من المفاعلة . وقرأ عبيدة السلماني : إن اصالحا ، وهي قراءة الأعمش ؛ جعل ماضيا . وأصله تصالح على وزن تفاعل ، فأدغم التاء في الصاد ، واجتلبت همزة الوصل والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت ؛ فإن كان اسما لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت ، وأكرمت ، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجر ; أي يصلح أي بشيء يصطلحان عليه . ويجوز أن يكون مصدرا لهذه الأفعال على حذف الزوائد . ابن مسعود
( والصلح خير ) ظاهره أن خيرا أفعل التفضيل ، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض ، فحذف لدلالة ما قبله عليه . وقيل من الفرقة . وقيل من الخصومة ، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد ، ويعني به صلحا السابق كقوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) . وقيل الصلح عام . وقيل الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ، ويزول به الخلاف ، ويندرج تحته صلح الزوجين ، ويكون المعنى : خير من الفرقة والاختلاف . وقيل خير هنا ليس أفعل تفضيل ، وإنما معناه خير من الخيور ، كما أن الخصومة شر من الشرور .
( وأحضرت الأنفس الشح ) هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معد في مكان . وأحضرت الأنفس ، [ ص: 364 ] وسيقت إليه ، ولم يأت ، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقا إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه ; لكون الشح مجبولا عليه الإنسان ، ومركوزا في طبيعته ، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا ؛ فقال ، ابن عباس : هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ، ومالها . وقال وابن جبير الحسن ، وابن زيد : هو شح كل واحد منهما بحقه . وقال الماتريدي : ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه يقال : هو شحيح بمودتك ; أي حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا بخيل ، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى ؛ وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب ؛ فأطلق على الحرص الشح ; لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأن البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل ، انتهى .
وقال في قوله : الزمخشري والصلح خير ، وهذه الجملة اعتراض ، وكذلك قوله : وأحضرت الأنفس الشح . ومعنى إحضار الأنفس الشح : أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ، ولا تنفك عنه ؛ يعني : أنها مطبوعة عليه . والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها ، أو يمسكها إذا رغب عنها ، وأحب غيرها ، انتهى . قوله والصلح خير جملة اعتراضية ، وكذلك ، وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أن قوله : ( وإن يتفرقا ) معطوف على قوله : ( فلا جناح عليهما أن يصلحا ) ، وقوله : ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضرا لا يغيب عنها أبدا ؛ جعله من باب القلب ، وليس بجيد ؛ بل التركيب القرآني يقتضي أن الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه ; لأن الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل ، إذ الأصل : حضرت الأنفس الشح ؛ على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك ؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول . فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني والشح هو المفعول الأول ، وقام الثاني مقام الفاعل . والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه . وقرأ العدوي : ( الشح ) بكسر الشين ، وهي لغة .
( وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء ؛ وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة ، وأمر بالتقوى في حالهن ; لأن الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها ، وخصومتها لا سيما ، وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض . وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهن ؛ فإنهن عوان عند الأزواج . وقال الماتريدي : وإن تحسنوا في أن تعطوهن أكثر من حقهن ، وتتقوا في أن لا تنقصوا من حقهن شيئا . أو أن تحسنوا في إيفاء حقهن والتسوية بينهن ، وتتقوا الجور والميل ، وتفضيل بعض على بعض . أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهن ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته ، انتهى . وختم آخر هذه بصفة الخبير ، وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق ; لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولا يظهر أن ذلك لكل أحد . وكان من آدم الناس ، وامرأته من أجملهن ؛ فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله ، فقال : ما لك ؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين . عمران بن حطان الخارجي