قوله : وقالت اليهود عزير ابن الله كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين ، وعزير مبتدأ وابن الله خبره ، وقد قرأ عاصم ، " عزير " بالتنوين ، وقرأ الباقون بترك [ ص: 567 ] التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه . والكسائي
ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربيا ، وقيل : إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعا ، بل لاجتماع الساكنين ، ومنه قراءة من قرأ : قل هو الله أحد الله الصمد ( الإخلاص : 1 - 2 ) .
قال أبو علي الفارسي وهو كثير في الشعر ، وأنشد : ابن جرير الطبري
لتجدني بالأمير برا وبالقناة لآمرا مكرا
إذا غطيف السلمي فرا
وظاهر قوله : وقالت اليهود إن هذه المقالة لجميعهم ، وقيل : هو لفظ خرج على العموم ، ومعناه الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم .
وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها ؟ بل قد انقرضوا ، وقيل : إنه قال ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم ، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود ، لأن قول بعضهم لازم لجميعهم .
قوله : وقالت النصارى المسيح ابن الله قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب ، فكان ذلك سببا لهذه المقالة .
والأولى : أن يقال : إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان ، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل ، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم ، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة; قيل : وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم .
قوله : ذلك قولهم بأفواههم الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة .
ووجه قولهم بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا بالفم ، بأن هذا القول لما كان ساذجا ليس فيه بيان ولا عضده برهان كان مجرد دعوى ، لا معنى تحتها ، فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه ، غير مفيدة لفائدة يعتد بها ، وقيل : إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد كما في " كتبت بيدي ومشيت برجلي " ، ومنه قوله - تعالى - : يكتبون الكتاب بأيديهم ( البقرة : 79 ) وقوله : ولا طائر يطير بجناحيه ( الأنعام : 38 ) .
وقال بعض أهل العلم : إن الله - سبحانه - لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا كقوله : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ( آل عمران : 167 ) وقوله : كبرت كلمة تخرج من أفواههم ( الكهف : 5 ) وقوله : يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ( الفتح : 11 ) .
قوله : يضاهئون قول الذين كفروا المضاهاة : المشابهة ، قيل : ومنه قول العرب " امرأة ضهياء " ، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال .
قال أبو علي الفارسي : من قال يضاهئون مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ ؛ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء .
ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا ، فيه أقوال لأهل العلم : الأول : أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم واللات والعزى ومناة ( بنات الله ) .
القول الثاني : أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين : إن الملائكة بنات الله .
القول الثالث : أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيرا ابن الله وأن المسيح ابن الله .
قوله : قاتلهم الله دعاء عليهم بالهلاك ؛ لأن من قاتله الله هلك ، وقيل : هو تعجب من شناعة قولهم ، وقيل : معنى قاتلهم الله : لعنهم الله ، ومنه قول أبان بن ثعلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وحكى النقاش أن أصل ( قاتل الله ) : الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء ، وأنشد : الأصمعي
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها
أنى يؤفكون أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .
قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الأحبار : جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول ، ومنه ثوب محبر ، وقيل : جمع حبر بكسر الحاء .
قال يونس : لم أسمعه إلا بكسر الحاء .
وقال الفراء : الفتح والكسر لغتان .
وقال : الحبر بالكسر العالم ، والحبر بالفتح العالم . ابن السكيت
والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة ، وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود .
ومعنى الآية أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به ، وينهونهم عنه ، كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب .
قوله : والمسيح ابن مريم معطوف على " رهبانهم " : أي اتخذه النصارى ربا معبودا ، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيرا ربا معبودا .
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن ، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه ، هو كاتخاذ التقليد في دين الله اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا ، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة ، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة ، والتمرة بالتمرة ، والماء بالماء ، فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله : ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا ، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده ، فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة ، تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه ، فأعرتموهما آذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وأفهاما مريضة ، وعقولا مهيضة ، وأذهانا كليلة ، وخواطر عليلة ، وأنشدتم بلسان الحال :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا - أرشدكم الله وإياي - كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم ، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبدهم ومتعبدكم ، ومعبودهم ومعبودكم ، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم ، وهو الإمام الأول : [ ص: 568 ] محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - .
دعوا كل قول عند قول محمد فما آبن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال ، مرشد التائه ، موضح السبيل ، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب ، وأوضح لنا منهج الهداية .
قوله : وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده ، أو وما أمر الذين اتخذوهم أربابا من الأحبار والرهبان إلا بذلك ، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أربابا .
قوله : لا إله إلا هو صفة ثانية لقوله إلها سبحانه عما يشركون أي تنزيها له عن الإشراك في طاعته وعبادته .
قوله : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق ، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة التي هي مجرد كلمات ساذجة ومجادلات زائفة ، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا وانقشعت به الظلمة ليطفئه ويذهب أضواءه ويأبى الله إلا أن يتم نوره أي دينه القويم ، وقد قيل : كيف دخلت " إلا " الاستثنائية على " يأبى " ، ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيدا .
قال الفراء : إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد .
وقال : إن العرب تحذف مع أبى ، والتقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره . الزجاج
وقال علي بن سليمان : إنما جاز هذا في أبى ؛ لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي .
قال النحاس : وهذا أحسن كما قال الشاعر :
وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنا
قوله : ولو كره الكافرون معطوف على جملة قبله مقدرة : أي أبى الله إلا أن يتم نوره ، ولو لم يكره الكافرون ذلك ولو كرهوا .
ثم أكد هذا بقوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده ، " ودين الحق " وهو الإسلام " ليظهره " أي ليظهر رسوله ، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين ، وقد وقع ذلك ولله الحمد . ولو كره المشركون الكلام فيه كالكلام في ولو كره الكافرون كما قدمنا ذلك .
وقد أخرج ، ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن قال : ابن عباس ، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله : وقالت اليهود عزير ابن الله الآية .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال : بني إسرائيل وما أعطاهم ، ثم سلط عليهم شر خلقه كن نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرون ما فضل الله به بختنصر ، فحرق التوراة وخرب بيت المقدس ، وعزير يومئذ غلام ، فقال عزير : أوكان هذا ؟ فلحق بالجبال والوحش فجعل يتعبد فيها ، وجعل لا يخالط الناس ، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي ، قال : يا أمه ، اتقي الله واحتسبي واصبري أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت ؟ فقالت : يا عزير أتنهاني أن أبكي وأنت قد خلفت بني إسرائيل ولحقت بالجبال والوحش ؟ ثم قالت : إني لست بامرأة ولكني الدنيا ، وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة ، فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة ، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا ، فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة ، فشرب من ماء العين ، وأكل من ثمرة الشجرة ، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة ، فجاء فأملاه على الناس ، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله ، تعالى الله عن ذلك .
وأخرج عنه أيضا فذكر قصة وفيها : أن ابن أبي حاتم عزيرا سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم ، أن يرد الذي نسخ من صدره ، فبينما هو يصلي نزل نور من الله - عز وجل - فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي .
وأخرج أبو الشيخ ، عن كعب قال : عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه ، فأنزلها الله عليه ، فبعد ذلك قالوا : دعاء عزير ابن الله .
وأخرج ابن مردويه ، ، ، عن وابن عساكر قال : ثلاث أشك فيهن : فلا أدري ابن عباس ، عزير كان نبيا أم لا ؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا ؟ قال : ونسيت الثالثة .
وأخرج ، ابن جرير عنه في قوله : يضاهئون : قال : يشبهون . وابن أبي حاتم
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : " قاتلهم الله " قال : لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن .
وأخرج ابن سعد ، ، ، وعبد بن حميد وحسنه والترمذي ، وابن المنذر ] ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن قال : عدي بن حاتم ، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه . أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ في سورة براءة :
وأخرجه أيضا أحمد ، ، . وابن جرير
وأخرج عبد الرزاق ، ، والفريابي وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والبيهقي في سننه ، عن أبي البحتري قال : سأل رجل حذيفة فقال : أرأيت قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه .
وأخرج ابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم الضحاك ، قال : أحبارهم قراؤهم ، ورهبانهم علماؤهم .
وأخرج ابن المنذر عن قال : الأحبار من ابن جريج اليهود ، والرهبان من النصارى .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم مثله . السدي ،
وأخرج أيضا ، عن قال : الأحبار العلماء ، والرهبان العباد . الفضيل بن عياض
[ ص: 569 ] وأخرج أيضا ، عن ، في قوله : السدي يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم قال : يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم الضحاك ، في قوله : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم يقول : يريدون أن يهلك محمد وأصحابه .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، عن قتادة في الآية قال : هم اليهود والنصارى .
وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى يعني بالتوحيد والإسلام والقرآن