الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حصول لاعبي كرة القدم على الملايين أفقدني حب الدراسة!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا فتاة، وأعاني من مشكلة (الغيرة) مشكلتي تتمثل في أني أرى مجموعة من لاعبي كرة القدم، وأعمارهم ما بين 18 - 19 سنة، لم يدرسوا شيئاً، ومع ذلك يحصلون على ملايين الدولارات، وبعضهم متدينون، بمعنى أنهم رابحون دنياً وآخرة، وأرى نفسي لا أستطيع الوصول لما وصلوا إليه، وهذا يسبب لي نوعاً من فقدان الشغف في الدراسة، والكد، والعمل، رغم أني أحاول أن أقنع نفسي بالنعم التي لديّ، وأن الله عادل وسيرزقني في الدنيا، أو في الجنة -إن شاء الله-، ولكن لا زال ذلك الشعور في داخلي، متمنية العيش مثلهم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سارة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك -أختي الفاضلة- في استشارات إسلام ويب، وأسأل الله أن يوفقنا وإياك صالح القول والعمل.

أختي الفاضلة: أبشرك أن هذا الشعور ليس شعوراً مرضياً يصعب علاجه، أو صفة ذاتية لا تنفك عن الإنسان، ولكن لهذه المشاعر أسباب تزول بمجرد الإقلاع عن أسبابها، لذلك -أختي الفاضلة- تحتاجين إلى العزيمة، والإصرار، والاجتهاد في تزكية نفسك، والسعي إلى إصلاحها، وستجدين ثمرة ذلك، ليس في هذا الأمر فقط، ولكن في كل حياتك.

أعلمي -أختي الفاضلة- أولاً أن "التمني" من أعظم وسائل الشيطان للغواية، ورغم أن الكثير يتهاون في أمر التمني، لكن آثاره عميقة جداً على النفس والحياة ككل، فالشعور بالحزن، وعدم الرضا، وفقدان الشغف في أي شيء، والتضجر المستمر الذي ينتهي بالترك أو التوقف عن أي إبداع أو سلوك يستلزم الإيجابية، وصولاً إلى مرحلة عدم الإنتاجية؛ كل ذلك من أهم أسبابه التمني، وهذه المرحلة خطيرة إذا لم يتدارك الإنسان نفسه وصل إلى مرحلة عدم الإنتاجية التي تعني العجز، وهي المرحلة التي داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الاستعاذة منها، فكان يدعو: (وأعوذ بك من العجز والكسل).

لقد أخبرنا الله في القرآن كيف أن الشيطان يستخدم التمني كوسيلة للغواية، فيقول تعالى: (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً*ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ۚ ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً*يعدهم ويمنيهم ۖ وما يعدهم الشيطان إلا غروراً).

حتى يذهب عنك هذا الشعور، إليك أهم مسببات التمني، وباجتنابها -بعون الله- يذهب عنك ما تجدين من تلك المشاعر:

أولاً: فضول النظر: وهو إطلاق النظر في ما عند الآخرين، فالعين إذا نظرت تمنت، لذلك العين مرآة تعكس كل شيء للقلب، فالإنسان الذي يُطلق بصره في ما عند الآخرين، فهو أحد أمرين، إما تمني زوال ما عندهم من خير، وهذا الحسد المحرم، وإما رجاء من الله أن يبلغه ما لديهم، مع رجاء الخير لهم، فهذه هي الغبطة، فإن تمنى ما عندهم مع السعي والاجتهاد، هذا هو الرجاء، فإن لم يسع ولم يعمل أصبح واقعاً في التمني المذموم الذي يريده الشيطان، ولخطورة التطلع لما عند الآخرين، فقد أرشد الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى خطر ذلك، لما يُحدثه في القلب من ألم وحزن، فقال تعالى مخاطباً نبيه: (ولا تمدن عينيك إلىٰ ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ۚ ورزق ربك خير وأبقىٰ).

ثانياً: الجهل بسنن الله في خلقه: فالله عدل سبحانه، وله الحكمة والعلم المطلق في كل شيء، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، وكل شيء عنده بمقدار وأجل مسمى، يُدبر الأمر بتوازن تعجز عن الإحاطة به عقول البشر، لذلك من أطلق لفكره الاعتراض أو الشك أصابه الحزن والألم؛ لعجزه عن فهم ما لم يحط به علمه القاصر، ومن استسلم لقدر الله، وآمن بقيُّوميته سبحانه فوق خلقه، وسعة علمه وإحاطته، أراح قلبه وفكره، وعاش حياة الرضا والطمأنينة، يقول تعالى: (والله فضل بعضكم علىٰ بعض في الرزق ۚ فما الذين فضلوا برادي رزقهم علىٰ ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء ۚ أفبنعمة الله يجحدون).

ثالثاً: ضعف الهمة: ومن أهم أسباب الوقوع في التمني ضعف الهمة، فغالباً ما تكون الأماني حيلة لضعيف الهمة قليل الإنجاز، ينشغل بها من لا هدف له، ويُعلِّل بها إخفاقه وعجزه عن بلوغ معالي الأمور، لذلك يجد الشيطان في قلبه فراغاً يشغله بالتمني عن أي إنجاز، فصاحب الهمة العالية لا ينشغل بما عند الناس، وما في أيديهم وما يملكون، إلا بحدود ما يرتقي به في نفسه وعقله وروحه، فنظره للآخرين -إن حدث-، فعلى سبيل الغبطة، والمنافسة على الخير، والاستفادة من تجارب الآخرين، والاقتداء بأحسنهم.

رابعاً: ضعف العلاقة بالله تعالى: فالمؤمن قلبه متعلق بالله موقن بوعده، فكلما رأى من هم فوقه حمد الله على العافية بقلب مليء بالرضا، وفي نفس الوقت يبذل الوسع والطاقة لرفع أي حاجة عنه، وإن نظر لمن هم دونه شكر الله تعالى على تفضيله له على عباده، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج مرض التطلُّع لما عند الآخرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) متفق عليه. فصاحب التمني لا ينظر إلا لمن هم فوقه؛ لذلك ينسى فضل الله عليه، وهذا يؤدي إلى عدم شكر العبد لنعم الله، مع نسيان فضله سبحانه، لذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم عندما نرى مبتلى أن نبادر إلى الحمد والشكر، لكونه فضلنا وصرف عنا هذا البلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء) صححه الألباني.

خامساً: الحكم على الباطن وفقاً للمظاهر والأشكال: ومن أهم أسباب التمني كذلك الحُكم على الآخرين بناء على ظاهرهم، فرغم أن الباطن غيب لا يعلمه إلا الله، ولكن افتراض أن السعادة والطمأنينة متلازمة مع حُسن الظاهر وجمال الشكل غير صحيح، فالكثير لا يشعر بما يدور في الخفاء وما يعانيه الكثير في سرهم، وهذا الأمر زاد انتشاره كثيراً، مع التعرض الشديد لمواقع التواصل الاجتماعي، التي يتنافس فيها الكثير في إظهار محاسن الأشكال والمظاهر، حتى ظن الكثير أن هؤلاء حازوا السعادة، فكم من غني أعطاه الله الكثير من الدنيا، لكنه سلبه أشياء أخرى، وفي حياتنا اليومية نرى العديد من هذه النماذج لأغنياء فقدوا الصحة، أو فقدوا السعادة، أو حرموا من الذرية، أو من يتمنى لذة واستقرار الحياة الزوجية والأسرية فلا يجدها، وهذا الأمر حذر منه القرآن لما يُحدثه في القلب من تمن وسخط، فقال تعالى مرشداً نبيه، والخطاب للأمة، قال تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ۚ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).

أختي الفاضلة: وصيتنا لك، أن التمني باب واسع يدخل منه الشيطان لقلب المؤمن فيضعفه، ويقعده ويحزنه، فعليك -أختي- إن أردت أن يذهب عنك هذا الشعور بالنقص أن تجتهدي في ترك أسبابه، والإكثار من الصالحات والنوافل، فطاعة الله تورث العبد الرضا، والرضا كنز من كنور السعادة في الدنيا، والسعادة القلبية التي يطلبها الجميع مكانها القلب المتعلق بالله تعالى، ومع كل ما سبق لا يمنع الإسلام أن يسعى المسلم وينافس الآخرين في الخير، والاجتهاد في الوصول إلى ما وصلوا إليه، ويجتهد في تحقيق الأسباب بقدر استطاعته وجهده، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، فإن فعلت ذلك ستجدين سعادة وطمأنينة في قلبك تُذهب عنك هذا الشعور، وتجعل الدنيا صغيرة في نفسك، والتنافس عليها نوع من الغرور.

وفقك الله، وأعانك على الخير.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً