والمقصود هنا [1] أنه ( * ) [2] يقال لهذا الإمامي [3] : إخوانك هؤلاء يقولون : إن قولهم هو الحق دون قولك ، وأنت لم تحتج لقولك إلا بمجرد قولك : إنه ليس بجسم ، ( 7 وهؤلاء إخوانك يقولون : إنه جسم 7 ) [4] ، فناظرهم فإنهم إخوانك في الإمامة وخصومك في التوحيد .
وهكذا ينبغي لك أن تناظر الخوارج الذين هم خصومك ، وأما [5] أهل السنة فهم وسط بينك وبين خصومك ، وأنت لا تقدر على قطع [ خصومك لا ] هؤلاء ولا هؤلاء [6] [ ص: 258 ] فإن قلت : حجتي على هؤلاء أن كل جسم محدث قال لك إخوانك : بل الجسم عندنا ينقسم إلى [7] قسمين : قديم ومحدث ، كما أن القائم بنفسه والموجود [8] والحي [9] والعالم والقادر ينقسم إلى قديم ومحدث .
فإن قال النافي : الجسم لا يخلو عن الحوادث ، ( * وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث .
قال له إخوانه : لا نسلم أنه لا يخلو عن [10] الحوادث ، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث .
فإن [11] قال : الدليل على أنه لا يخلو من الحوادث * ) [12] أنه لا يخلو من الأعراض ، والأعراض حادثة [13] [ فإن العرض لا يبقى زمانين .
وعلى هذا اعتمد كثير من الكلابية في حدوث العالم ، وعليه أيضا اعتمد الآمدي [14] وطعن في كل دليل غيره ، وذكر أن هذه طريقة الأشعرية .
وضعف ذلك من تعقب كلامه ، وقال : هذا يقتضي بناء هذا الأصل العظيم على هذه المقدمة الضعيفة ، ] وقد رأيت كلام نفسه ، [ ص: 259 ] فرأيته اعتمد على أن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق بناء على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة ، فاحتج باستلزامها لهذا النوع من الأعراض ، وهذا النوع حادث ؛ لأنه من الأكوان لكنه مبني على الجوهر الفرد ، وجمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على نفيه . الأشعري
والمقصود هنا ذكر ما يبين أصول الطوائف ، وأن قول هؤلاء الرافضة المعتزلة من أفسد أقوال طوائف الأمة ، فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية يمكنهم الانتصاف بها من إخوانهم أهل البدع ، وإن كان أولئك ضالين مبتدعين أيضا [15] ، وهم مناقضون لهم غاية المناقضة ، فكيف تكون لهم حجة على أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما أن الإسلام وسط في الملل ؟ !
فإذا قال النافي : الدليل على حدوثها استلزامها للأعراض [16] ] [17] .
قالوا له [18] : ليس هذا قولك و [ قول ] أئمتك [19] المعتزلة وإنما هو الأشعرية قول [ ص: 260 ] [20] ، وأما المعتزلة فعندهم أنه قد يخلو عن كثير من الأعراض ، وإنما يقولون ذلك في الأكوان أو في الألوان [21] .
وقالوا : لا نسلم أن الأعراض حادثة وأنها لا تبقى زمانين ، وهذا القول معلوم البطلان بالضرورة عند جمهور العقلاء ، مع أنه ليس قولك وقول شيوخك المعتزلة والرافضة .
[ فإن ] [22] قال الإمامي النافي : الدليل على أن الجسم لا يخلو من [23] الحوادث أنه لا يخلو من الأكوان ، والأكوان حادثة ، ( * إذ لا يخلو [24] عن الحركة والسكون ، وهما حادثان .
قالوا له : لا نسلم أن الأكوان كلها [25] حادثة * ) [26] ، ولا نسلم أن السكون حادث ، بل يجوز أن يكون لنا جسم قديم أزلي ساكن ، ثم تحرك بعد أن لم يكن متحركا [27] ; لأن السكون إن كان عدميا جاز أن يحدث أمر وجودي ، وإن كان وجوديا جاز أن يزول بحادث [28] .
قال النافي : القديم لا يزول .
قال إخوانه : القديم إن كان معنى عدميا جاز زواله باتفاق [29] [ العقلاء ] [30] ، ( 11 فإنه ما من حادث إلا وعدمه قديم 11 ) [31] ، والسكون عند كثير [ ص: 261 ] من الناس عدمي ، ونحن نختار أنه عدمي فيجوز زواله ، وإن كان وجوديا فلا نسلم أنه لا يجوز زواله .
[ فإن ] قال النافي [32] : السكون [ وجودي ] ، وإذا كان [33] وجوديا قديما ، فالمقتضي [34] لقدمه قديم من لوازم الواجب ، فيكون واجبا بوجوب سببه [35] .
قال إخوانه المجسمة : هذا الموضع يرد على جميع الطوائف المنازعين [36] لنا من الشيعة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم ، فإنهم وافقونا على أن البارئ فعل بعد أن لم يكن فاعلا ، فعلم جواز حدوث الحوادث [ كلها ] [37] بلا [38] سبب حادث . [ وهم يصرحون بأنه يجوز - بل يجب [39] - حدوث الحوادث كلها بغير [40] سبب حادث ] [41] ( 11 لامتناع حوادث لا أول لها عندهم 11 ) [42] ، وإذا جاز ذلك اخترنا [43] أن يكون السكون عدميا ، والحادث هو [44] الحركة التي هي وجودية ، فإذا جاز إحداث جرم بلا سبب حادث فإحداث حركة بلا سبب حادث أولى .
ولو قيل : إن السكون وجودي ، فإذا جاز وجود أعيان بعد أن لم تكن ، [ ص: 262 ] وذلك تحول [45] من أن لا يفعل إلى أن يفعل ; سواء سمي مثل هذا تغيرا وانتقالا [46] أو لم يسم ، جاز أن يتحرك الساكن وينتقل [47] من السكون إلى الحركة [48] [ وإن كانا وجوديين [49] .
وقول القائل : المقتضي لقدمه من لوازم الوجوب .
جوابه أن يقال : قد يكون بقاؤه مشروطا بعدم تعلق الإرادة بزواله أو بغير ذلك ، كما يقولونه في سبب الحوادث ، فإن الواجب انتقل من أن لا يفعل إلى أن يفعل ، فما كان جوابهم عن ذلك [50] كان جوابا عن هذا ، وإن قالوا بدوام الفاعلية بطل قولهم وقولنا .
وبالجملة [51] هل يجوز [52] أن يحدث عن القديم أمر بلا سبب حادث ، وترجيح أحد طرفي الممكن بمجرد القدرة ؟ وحينئذ فيجوز أن يحدث القادر ما به يزيل السكون الماضي من الحركة ، سواء كان ذلك السكون وجوديا أو عدميا ] [53] .
قال النافي : هذا يلزم منه أن يكون البارئ محلا للحركة وللحوادث [54] أو للأعراض ، وهذا باطل .
[ ص: 263 ] قال إخوانه الإمامية : قد صادرتنا على المطلوب فهذا صريح قولنا ، فإنا نقول [55] : إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض ، فما الدليل على بطلان قولنا ؟
قال النافي : لأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها ، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث .
قال إخوانه : قولك : ما قامت به الحوادث لم يخل منها ، فهذا [56] ليس قول الإمامية ولا قول المعتزلة ، وإنما هو قول الأشعرية . وقد اعترف الرازي والآمدي وغيرهما بضعفه وأنه لا دليل عليه ، وهم وأنتم تسلمون لنا أنه أحدث الأشياء بعد أن لم يكن هناك حادث بلا سبب حادث ، فإذا حدثت [57] الحوادث من غير أن يكون لها أسباب حادثة ، جاز أن تقوم به بعد أن لم تكن قائمة به .
فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الإمامية ، ويقوله [58] من يقوله من الكرامية وغيرهم : من إثبات أنه جسم قديم ، وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا ، أو تحرك [59] بعد أن لم يكن متحركا ، لا يمكن لهؤلاء الإمامية [60] وموافقيهم من المعتزلة [ والكلابية ] [61] إبطاله ، فإن أصل قولهم بامتناع ( * الحوادث به ، [ ص: 264 ] وهؤلاء قد جوزوا ذلك * ) [62] ، [ ثم الكلابية [63] لا تنفي قيام الحوادث به لانتفاء [64] الصفات ، فإنهم يقولون : بقيام أعيان الصفات القديمة به ، وإنما ينفون قدم النوع لتجدد أعيانه فإنها حوادث .
وعمدتهم في نفي ذلك أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ، وهذه مقدمة باطلة عند العقلاء ، وقد اعترف بذلك غير واحد من حذاقهم ، كالرازي والآمدي وغيرهما ، وأما أبو المعالي وأمثاله فلم يقيموا حجة عقلية على هذا المطلوب ، وإنما اعتمدوا على تناقض [65] أقوال من نازعهم من الكرامية والفلاسفة وغيرهما .
وتناقض أقوال هذه الطوائف يدل على فساد قولها بمجموع الأمرين ، لا يدل على صحة أحدهما بعينه ، وحينئذ فإذا كان هناك قول ثالث يمكن القول به مع فساد أحدهما أو كليهما [66] لم يلزم صحة قول الكلابية وجميع الطوائف المختلفين المخالفين للكتاب والسنة ، وإنما عندهم إفساد بعضهم قول الآخرين وبيان تناقضه ، ليس عندهم قول صحيح يقال به .
ولهذا كانت الفائدة المستفادة من كلامهم نقض بعضهم كلام بعض فلا يعتقد شيء منها ، ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهو الصواب الموافق لصريح المعقول ، وإلا استفيد من ذلك السلامة من [ ص: 265 ] تلك الاعتقادات الباطلة ، وإن لم يعرف الحق فالجهل البسيط خير من الجهل المركب ، وعدم اعتقاد الأقوال الباطلة خير من اعتقاد شيء منها ] [67] .
( 2 وأما المعتزلة فتنفي 2 ) [68] قيام الحوادث به ؛ لأنها أعراض فلا تقوم به ، وهؤلاء يقولون : بل تقوم به الأعراض .
وعمدة المعتزلة أنه لو قامت به لكان جسما ; وهؤلاء التزموا أنه جسم . وعمدة هؤلاء في نفي كونه جسما أن الجسم لا يخلو من الحوادث . وهؤلاء قد نازعوهم في هذا وقالوا : بل يخلو [69] عن الحوادث ، وقالوا : إن البارئ جسم قديم ; كما تقولون أنتم : إنه [70] ذات قديمة ، وإنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا ، [ وتجعلون مفعوله هو فعله ] [71] . لكن هؤلاء يقولون : له [72] فعل قائم به ومنفصل عنه ; وهؤلاء يقولون : [ له ] [73] مفعول منفصل عنه ، ولا يقوم به فعل .
وعمدة هؤلاء أنه في الأزل : إن كان ساكنا لم تجز عليه الحركة [74] ; لأن السكون معنى وجودي أزلي فلا يزول ، وإن كان متحركا لزم حوادث لا تتناهى ، وهؤلاء يقولون : بل كان ساكنا في الأزل ، ويقولون : إن [75] [ ص: 266 ] السكون عدم الحركة ، ( 1 أو عدم الحركة عما يمكن تحريكه 1 ) [76] ، أو عدمها [77] عما من شأنه أن يتحرك ، فلا يسلمون أن السكون أمر وجودي ، كما يقولون مثل ذلك [78] في العمى والصمم والجهل البسيط .
( * والقول بأن هذه الأمور عدمية ليس هو قول من يقوله من الفلاسفة وحدهم ، كما يظنه بعض المصنفين في الكلام ، بل هو قول كثير من النظار المتكلمين أهل القبلة [ والصلاة ] [79] ، وتنازعهم في هذا كتنازعهم في نظائره ، مثل بقاء الأعراض وتماثل الأجسام وغير ذلك * ) [80] .
وإن قالوا : إنه وجودي ، فلا يسلمون أن [81] كل أزلي يزول ، بل يقولون في تبدل [82] السكون بالحركة ما يقوله مناظروهم في تبدل [83] الامتناع بالإمكان ، فإن الطائفتين اتفقتا على أن الفعل كان ممتنعا في الأزل فصار ممكنا ، فهكذا يقوله هؤلاء في السكون الوجودي إن [84] كان تبدله بالحركة في الأزل [85] ممتنعا وهو - فيما لا يزال - ممكن فتبدل [86] حيث أمكن التبدل [87] ، كما يقولون جميعا : إنه حدث [88] الفعل حيث كان الحدوث ممكنا .
[ ص: 267 ] فهذا بحث هؤلاء الإمامية والكرامية مع هؤلاء الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة [ والكلابية ] [89] وأتباعهم [90] في هذه الأمور التي يعتمدون فيها على العقل [91] ، وقد أجابهم طائفة من المعتزلة والشيعة [92] ومن وافقهم بأن الدليل [ الدال ] [93] على حدوث العالم هو هذا الدليل الدال على حدوث الأجسام ، فإن لم يكن هذا صحيحا انسد طريق معرفة [94] حدوث العالم وإثبات الصانع [95] .
فقال [96] المخالف لهؤلاء : لا نسلم أن هذا هو الطريق إلى معرفة [97] حدوث العالم ولا إلى إثبات الصانع ، بل هذا طريق محدث في الإسلام ، لم يكن أحد من الصحابة ولا القرابة [98] ولا التابعين يسلك هذه الطريق [99] ، وإنما سلكها الجهم بن صفوان ومن وافقهما ، ولو كان العلم بإثبات الصانع وحدوث العالم وأبو الهذيل العلاف [100] لا يتم إلا بهذه الطريق لكان بيانها من الدين ، ولم يحصل الإيمان إلا بها .
ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر هذه الطريق لأمته ، ولا دعاهم بها ولا إليها [101] ولا أحد من الصحابة . فالقول بأن [102] الإيمان موقوف عليها مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام ، [ ص: 268 ] وكل أحد يعلم أنها طريق محدثة لم يسلكها السلف ، والناس متنازعون في صحتها ، فكيف يقولون : إن العلم بالصانع والعلم بحدوث العالم موقوف عليها ؟
وقالوا : [103] [ بل هذه الطريقة تنافي العلم بإثبات الصانع ، وكونه خالقا للعالم آمرا بالشرائع ، مرسلا للرسل ، فالذين ابتدعوها من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم قالوا : إنها صحيحة في العقل ، وإن العلم بالنبوة وصحة دين الإسلام لا يتم إلا بها .
وقولهم : إن العلم بذلك لا يتم إلا بها ، مما أنكره عليهم جماهير الأمة من الأولين والآخرين ، لا سيما السلف والأئمة ، وكلامهم في وذم أهله ونسبتهم إلى الجهل وعدم العلم من الأمور المتواترة عن السلف . تبديع أهل هذا الكلام وذمه
وكذلك القول بصحتها من جهة العقل هو مما أنكره جمهور أئمة الأمة [104] ، لكن سلم ذلك طوائف من الكرامية والكلابية وغيرهم ، ونازعوهم في موجب هذه الطريق ، ونازعوهم أيضا في توقف صحة دين الإسلام عليها ، كما ذكر ذلك غير واحد ; مثل ما ذكره في " رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب " أبو الحسن الأشعري [105] ، وذكره [ ص: 269 ] الخطابي وأبو عمر الطلمنكي الأندلسي [106] والقاضي أبو يعلى [107] وغير واحد .
وأما أئمة السنة وطوائف من أهل الكلام فبينوا أن هذه طريقة باطلة في العقل أيضا ، وأنها تنافي صحة دين الإسلام ، فضلا عن أن تكون شرطا في العلم به ، وأين اللازم لدين الإسلام من المنافي له ؟ !
وبينوا أن تقدير ذات لم تزل غير فاعلة ولا متكلمة بمشيئتها وقدرتها ، ثم حدوث ما يحدث من مفعولات - مثل كلام مؤلف منظوم وأعيان وغير ذلك - بدون سبب حادث ، مما يعلم بطلانه بصريح المعقول ، وهو مناقض لكونه سبحانه خلق السماوات والأرض ، ولكون القرآن كلام الله ، وغير ذلك مما أخبر به الرسل ، بل حقيقته أن الرب لم يفعل شيئا ولم يتكلم بشيء لامتناع ما ذكروه من أن يكون فعالا أو مقالا له ، كما قد بسط في غير هذا الموضع ، إذ المقصود هنا التنبيه على مجامع الطرق والمقالات .
[108] فما الطريق إلى ذلك ؟ قالت النفاة : فإذا كانت طرقنا في إثبات العلم بالصانع وحدوث السماوات والأرض وإثبات العلم بالنبوة طرقا باطلة ] [109]
قالوا : [ أولا ] : لا يجب [110] علينا في هذا المقام بيان ذلك ، بل المقصود [ ههنا ] [111] أن هذه طريق محدثة مبتدعة يعلم أنها ليست هي [ ص: 270 ] الطريق [112] التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيمتنع أن تكون واجبة أو يكون العلم الواجب أو الإيمان [ بصدقه ] [113] موقوفا عليها .
وقالوا : [114] كل من العلم بالصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة .