الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأحمد بن حنبل ، وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة [1] والصبر في [ ص: 602 ] المحنة ، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا ، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها [2] ، وكان الأئمة قبله [3] قد ماتوا قبل المحنة ، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة [4] - على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق - ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله [ ص: 603 ] تعالى ، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة ، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من [ ولاة الأمور [5] ، فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة ، حتى تهددوا [6] بعضهم بالقتل ، وقيدوا بعضهم ، وعاقبوهم ( وأخذوهم ) [7] بالرهبة والرغبة ، وثبت ] [8] الإمام أحمد بن حنبل [9] على ذلك [ الأمر ] [10] حتى حبسوه مدة ، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته ، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ، ولم يأتوا [11] بما يوجب موافقته لهم ، [ بل ] بين خطأهم [12] فيما ذكروه [13] من الأدلة ، وكانوا قد طلبوا له [14] أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم ، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار [15] وأمثاله ، ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط ، بل كانت [ ص: 604 ] مع جنس الجهمية من المعتزلة [ والنجارية ] [16] والضرارية وأنواع المرجئة ، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا ، [ لكن جهم أشد تعطيلا ؛ لأنه نفى الأسماء والصفات ، والمعتزلة تنفي الصفات دون الأسماء ] [17] .

                  وبشر المريسي كان من المرجئة ، لم يكن من المعتزلة ، بل كان من كبار [18] .

                  [ ص: 605 ] وظهر للخليفة المعتصم أمرهم ، وعزم على رفع المحنة ، حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد [19] يشير عليه : إنك إن لم تضربه [ وإلا ] انكسر [20] ناموس الخلافة ، فضربه [21] ، فعظمت الشناعة من العامة والخاصة ، فأطلقوه .

                  ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات ، وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات [22] ، وصنف [23] الناس في ذلك مصنفات .

                  وأحمد [24] وغيره من علماء أهل [25] السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد [ ص: 606 ] مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ، ورفع الله قدر هذا الإمام ، فصار إماما من أئمة السنة [26] ، وعلما من أعلامها ، [ لقيامه بإعلامها ] [27] وإظهارها ، واطلاعه على نصوصها وآثارها ، وبيانه لخفي أسرارها [28] ، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا [29] .

                  ولهذا قال بعض شيوخ المغرب [30] : المذهب لمالك والشافعي ، والظهور لأحمد ; يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول [31] مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص [32] الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والاعتزال ، كتخصيصه [33] بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية ، بل في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - والرد على اليهود والنصارى .

                  والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر [ به ] [34] ، وطاعته فيما أمر [ به ] [35] ، قد شمل جميع العباد ، ووجب على كل أحد ، فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله [36] ، وإذا قدر أن في الحنبلية - أو غيرهم من طوائف [ ص: 607 ] أهل السنة - من قال أقوالا باطلة ، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك ، بل يرد على من قال ذلك الباطل ، وتنصر السنة بالدلائل [37] .

                  ولكن الرافضي أخذ ينكت [38] على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ، ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح [39] .

                  وقد اتفق عقلاء [40] المسلمين على أنه ليس في [ طائفة من ] [41] طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا ، وأقرب إلى كل شر ، وأبعد عن كل خير من طائفته . ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في " المقالات " ذكر أولا مقالتهم ، وختم بمقالة أهل السنة والحديث ، وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال [42] أهل السنة [ والحديث ] [43] يقول ، وإليه يذهب [44] .

                  وتسمية هذا الرافضي - وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات - لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة [ الخلفاء ] [45] الثلاثة ناصبيا [46] بناء على اعتقادهم ، فإنهم لما اعتقدوا [47] أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من [ ص: 608 ] هؤلاء ، جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا ، كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين [48] متماثلان ، أو أن الجسمين متماثلان ، ونحو ذلك ، قالوا : إن مثبتة الصفات مشبهة .

                  فيقال لمن قال هذا [49] : إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت ، وجعل صفات الرب مثل صفات العبد [50] ، فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة .

                  وإن كنت تريد [51] بذلك أنهم يوالون الخلفاء [52] ، ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .

                  والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع ، كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل . ثم من أراد أن يمدح أو يذم ، فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم ، فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل ، بطلت كل من المقدمتين وكان [53] هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول .

                  [ ص: 609 ] والكتاب والسنة ليس فيه لفظ " ناصبية " [54] ولا " مشبهة " ولا " حشوية " ولا فيه أيضا لفظ " رافضة " . ونحن إذا قلنا " رافضة " نذكره للتعريف ، لأن مسمى هذا الاسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة : من الكذب على الله ورسوله ، وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ، ومعاداة أولياء الله - بل خيار أوليائه - وموالاة اليهود والنصارى والمشركين ، كما تبين وجوه الذم .

                  وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة . نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ، ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم ، كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه ، لم يستلزم ذلك [55] ذم الإسلام وأهله القائمين [56] بواجباته .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية