وأحمد بن حنبل ، وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة [1] والصبر في [ ص: 602 ] المحنة ، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا ، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها [2] ، وكان الأئمة قبله [3] قد ماتوا قبل المحنة ، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة [4] - على عهد وأخيه المأمون ثم المعتصم الواثق - ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله [ ص: 603 ] تعالى ، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة ، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من [ ولاة الأمور [5] ، فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة ، حتى تهددوا [6] بعضهم بالقتل ، وقيدوا بعضهم ، وعاقبوهم ( وأخذوهم ) [7] بالرهبة والرغبة ، وثبت ] [8] الإمام أحمد بن حنبل [9] على ذلك [ الأمر ] [10] حتى حبسوه مدة ، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته ، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ، ولم يأتوا [11] بما يوجب موافقته لهم ، [ بل ] بين خطأهم [12] فيما ذكروه [13] من الأدلة ، وكانوا قد طلبوا له [14] أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم ، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار [15] وأمثاله ، ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط ، بل كانت [ ص: 604 ] مع جنس الجهمية من المعتزلة [ والنجارية ] [16] والضرارية وأنواع المرجئة ، ، [ لكن جهم أشد تعطيلا ؛ لأنه نفى الأسماء والصفات ، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا ] والمعتزلة تنفي الصفات دون الأسماء [17] .
كان من وبشر المريسي المرجئة ، لم يكن من المعتزلة ، بل كان من كبار [18] .
[ ص: 605 ] وظهر للخليفة أمرهم ، وعزم على رفع المحنة ، حتى ألح عليه المعتصم ابن أبي دؤاد [19] يشير عليه : إنك إن لم تضربه [ وإلا ] انكسر [20] ناموس الخلافة ، فضربه [21] ، فعظمت الشناعة من العامة والخاصة ، فأطلقوه .
ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات ، وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات [22] ، وصنف [23] الناس في ذلك مصنفات .
وأحمد [24] وغيره من علماء أهل [25] السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد [ ص: 606 ] مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ، ورفع الله قدر هذا الإمام ، فصار إماما من أئمة السنة [26] ، وعلما من أعلامها ، [ لقيامه بإعلامها ] [27] وإظهارها ، واطلاعه على نصوصها وآثارها ، وبيانه لخفي أسرارها [28] ، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا [29] .
ولهذا قال بعض شيوخ المغرب [30] : المذهب لمالك ، والظهور والشافعي ; يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول لأحمد [31] مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص [32] الكلام من وأصحابه في مسائل الإمامة والاعتزال ، كتخصيصه أحمد [33] بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية ، بل في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - والرد على اليهود والنصارى .
والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر [ به ] [34] ، وطاعته فيما أمر [ به ] [35] ، قد شمل جميع العباد ، ووجب على كل أحد ، فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله [36] ، وإذا قدر أن في الحنبلية - أو غيرهم من طوائف [ ص: 607 ] أهل السنة - من قال أقوالا باطلة ، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك ، بل يرد على من قال ذلك الباطل ، وتنصر السنة بالدلائل [37] .
ولكن الرافضي أخذ ينكت [38] على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ، ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح [39] .
وقد اتفق عقلاء [40] المسلمين على أنه ليس في [ طائفة من ] [41] طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا ، وأقرب إلى كل شر ، وأبعد عن كل خير من طائفته . ولهذا لما صنف كتابه في " المقالات " ذكر أولا مقالتهم ، وختم بمقالة أهل السنة والحديث ، وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال الأشعري [42] أهل السنة [ والحديث ] [43] يقول ، وإليه يذهب [44] .
وتسمية هذا الرافضي - وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات - لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة [ الخلفاء ] [45] الثلاثة ناصبيا [46] بناء على اعتقادهم ، فإنهم لما اعتقدوا [47] أنه لا ولاية إلا بالبراءة من [ ص: 608 ] هؤلاء ، جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا ، كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين لعلي [48] متماثلان ، أو أن الجسمين متماثلان ، ونحو ذلك ، قالوا : إن مثبتة الصفات مشبهة .
فيقال لمن قال هذا [49] : إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض وأهل البيت ، وجعل صفات الرب مثل صفات العبد علي [50] ، . فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة
وإن كنت تريد [51] بذلك أنهم يوالون الخلفاء [52] ، ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .
والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع ، كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل . ثم من أراد أن يمدح أو يذم ، فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم ، فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل ، بطلت كل من المقدمتين وكان [53] هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول .
[ ص: 609 ] والكتاب والسنة ليس فيه لفظ " ناصبية " [54] ولا " مشبهة " ولا " حشوية " ولا فيه أيضا لفظ " رافضة " . ونحن إذا قلنا " رافضة " نذكره للتعريف ، لأن مسمى هذا الاسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة : من الكذب على الله ورسوله ، وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ، ومعاداة أولياء الله - بل خيار أوليائه - وموالاة اليهود والنصارى والمشركين ، كما تبين وجوه الذم .
الرافضة . نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ، ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم ، كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه ، لم يستلزم ذلك وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم [55] ذم الإسلام وأهله القائمين [56] بواجباته .