الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وبيان هذا : بالوجه الخامس [1] [ وهو ] [2] أن يقال : هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة ، وبعضهم من غلاة النساك ، وداود الجواربي [3] . ( * قال الأشعري في " المقالات " [4] : وقال داود الجواربي [5] * ) [6] ومقاتل بن سليمان : إن الله جسم ، وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان [7] : لحم [8] ودم وشعر وعظم ، له [ ص: 618 ] جوارح [9] وأعضاء من يد ورجل [10] ولسان [11] ورأس وعينين [12] وهو مع هذا [13] لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره [14] . وحكي عن داود الجواربي [15] أنه كان يقول : إنه [16] أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك " .

                  " وقال هشام بن سالم الجواليقي : إن الله على صورة [ الإنسان ] [17] ، وأنكر أن يكون لحما ودما ، وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا [18] ، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان : سمعه غير بصره [19] ، وكذلك سائر حواسه : له يد ورجل [ وأذن ] [20] وعين وأنف وفم ، وإن له وفرة سوداء " .

                  قلت : أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة . وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله . والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة ، وفيهم انحراف على [21] مقاتل بن سليمان ، [ ص: 619 ] فلعلهم زادوا في النقل عنه ، أو نقلوا عنه ، أو نقلوا عن غير ثقة ، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد [22] . وقد قال الشافعي : من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة [23] .

                  ومقاتل بن سليمان ، وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث - بخلاف مقاتل بن حيان [24] فإنه ثقة - لكن لا ريب [25] في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه [26] ، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء [ ص: 620 ] وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه ، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه ، وهي كذب عليه قطعا ، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها ، وما يبعد [27] أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب .

                  وهذا الإمامي [28] نقل النقل المذكور عن داود الطائي ، وهذا جهل منه ، أو من نقله [ هو ] [29] عنه ، فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدا [ ص: 621 ] فقيها من أهل الكوفة ، في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى [30] وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة ، وأخباره وسيرته مشهورة عند [31] العلماء [32] ، ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل ، وإنما القائل لذلك داود الجواربي ، فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي [33] ، إن لم يكن [34] الغلط في النسخة التي أحضرت [ إلي ] ، وداود الجواربي أظنه [35] [ ص: 622 ] كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا ، وقصته معروفة [36] .

                  قال الأشعري [37] : " وفي الأمة [38] قوم ينتحلون النسك ، يزعمون أنه جائز على الله تعالى [39] الحلول في الأجسام [40] ، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا : لا ندري ، لعله ، ربما هو [41] .

                  ومنهم من يقول : إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال [42] ، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن .

                  ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا [43] ، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض : لحم ودم على صورة الإنسان ، له ما للإنسان من الجوارح .

                  وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ، ويغتم ويحزن إذا عصوه .

                  [ ص: 623 ] وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة [44] تزول عنهم العبادات ، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم .

                  وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله [45] ، ويأكلوا [46] من ثمار الجنة ، ويعانقوا [47] الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين .

                  ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم [ إلى ] [48] أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين " .

                  [ قلت : هذه المقالات التي [49] حكاها الأشعري - وذكروا أعظم منها - موجودة في الناس قبل هذا الزمان . وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد . ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام ، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال ، لما في ذلك من اللذة له ، فيتخذ إلهه هواه ، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف . ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة . بل يقولون : إنهم يرونه في صور مختلفة . ومنهم من يقول : إن المواضع المخضرة خطا عليها ، وإنما اخضرت من وطئه عليها ، وفي [ ص: 624 ] ذلك حكايات متعددة يطول وصفها ، وأما القول بالإباحة وحل المحرمات - أو بعضها - للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول ، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ، ولهذا يضرب بهم المثل فيقال : فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع . وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام ، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء ، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم ، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ] [50] .

                  ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها - موجودة [51] في الشيعة .

                  وكثير من النساك يظنون [52] أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم ، وسبب ذلك أنه [53] يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار [54] ما يغيب [ به ] [55] عن حسه الظاهر ، حتى يظن أن ذلك [ هو ] شيء [56] يراه بعينه الظاهرة ، وإنما هو موجود في قلبه .

                  ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة [57] التي يراها خطاب الربوبية [ ص: 625 ] ويخاطبها أيضا بذلك ، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه ، وإنما هو موجود في نفسه ، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله . فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج .

                  [ وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ، ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول : أنا ربك . ومنهم من يقول : أنا نبيك ، وهذا قد وقع لغير واحد . ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ، ويكون المخاطب له جنيا ، كما قد وقع لغير واحد . لكن بسط ( الكلام ) [58] على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج ، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه ، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ] [59] .

                  وكثير من الجهال أهل الحال [60] وغيرهم يقولون : إنهم يرون الله عيانا في الدنيا ، وأنه يخطوا خطوات [61] .

                  [ وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم : كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده ، وقول بعضهم : إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله ، وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ ، لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من [ ص: 626 ] النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالات ، فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها ] [62] .

                  وأهل الوحدة [63] القائلون بوحدة الوجود ، كأصحاب ابن عربي وابن سبعين [64] [65] يدعون أنهم يشاهدون الله دائما ، فإن [ عندهم ] [66] مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد ، إذ كانت ذاته [67] الوجود المطلق الساري في الكائنات .

                  فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ، ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح ، كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ، ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة [ الوجود ] [68] . وكان التلمساني [69] شيخ القائلين بالوحدة [ الذي شرح " مواقف " [ ص: 627 ] النفري [70] . وصنف غير ذلك ] [71] قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا ، وحدثني نقيب الأشراف عنه [72] أنه قال : قلت له : أنت نصيري ؟ قال : نصير جزء مني [73] ; والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية