وبيان هذا : بالوجه الخامس [1] [ وهو ] [2] أن يقال : هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة ، وبعضهم من غلاة النساك ، وداود الجواربي [3] . ( * قال في " المقالات " الأشعري [4] : وقال داود الجواربي [5] * ) [6] : إن الله جسم ، وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان ومقاتل بن سليمان [7] : لحم [8] ودم وشعر وعظم ، له [ ص: 618 ] جوارح [9] وأعضاء من يد ورجل [10] ولسان [11] ورأس وعينين [12] وهو مع هذا [13] لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره [14] . وحكي عن داود الجواربي [15] أنه كان يقول : إنه [16] أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك " .
" وقال هشام بن سالم الجواليقي : إن الله على صورة [ الإنسان ] [17] ، وأنكر أن يكون لحما ودما ، وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا [18] ، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان : سمعه غير بصره [19] ، وكذلك سائر حواسه : له يد ورجل [ وأذن ] [20] وعين وأنف وفم ، وإن له وفرة سوداء " .
قلت : أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة . وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله . ينقل هذه المقالات من كتب والأشعري المعتزلة ، وفيهم انحراف على [21] مقاتل بن سليمان ، [ ص: 619 ] فلعلهم زادوا في النقل عنه ، أو نقلوا عنه ، أو نقلوا عن غير ثقة ، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد [22] . وقد قال : من أراد التفسير فهو عيال على الشافعي مقاتل ، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة [23] .
، وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث - بخلاف ومقاتل بن سليمان مقاتل بن حيان [24] فإنه ثقة - لكن لا ريب [25] في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه [26] ، كما أن وإن كان الناس خالفوه في أشياء [ ص: 620 ] وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه ، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه ، وهي كذب عليه قطعا ، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها ، وما يبعد أبا حنيفة [27] أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب .
وهذا الإمامي [28] نقل النقل المذكور عن ، وهذا جهل منه ، أو من نقله [ هو ] داود الطائي [29] عنه ، فإن كان رجلا صالحا زاهدا عابدا [ ص: 621 ] فقيها من داود الطائي أهل الكوفة ، في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى [30] وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة ، وأخباره وسيرته مشهورة عند [31] العلماء [32] ، ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل ، وإنما القائل لذلك داود الجواربي ، فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي [33] ، إن لم يكن [34] الغلط في النسخة التي أحضرت [ إلي ] ، وداود الجواربي أظنه [35] [ ص: 622 ] كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا ، وقصته معروفة [36] .
قال الأشعري [37] : " وفي الأمة [38] قوم ينتحلون النسك ، يزعمون أنه جائز على الله تعالى [39] الحلول في الأجسام [40] ، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا : لا ندري ، لعله ، ربما هو [41] .
ومنهم من يقول : إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال [42] ، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن .
ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا [43] ، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض : لحم ودم على صورة الإنسان ، له ما للإنسان من الجوارح .
وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ، ويغتم ويحزن إذا عصوه .
[ ص: 623 ] وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة [44] تزول عنهم العبادات ، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم .
وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله [45] ، ويأكلوا [46] من ثمار الجنة ، ويعانقوا [47] الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين .
ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم [ إلى ] [48] أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين " .
[ قلت : هذه المقالات التي [49] حكاها - وذكروا أعظم منها - موجودة في الناس قبل هذا الزمان . وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد . ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام ، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال ، لما في ذلك من اللذة له ، فيتخذ إلهه هواه ، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف . ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة . بل يقولون : إنهم يرونه في صور مختلفة . ومنهم من يقول : إن المواضع المخضرة خطا عليها ، وإنما اخضرت من وطئه عليها ، وفي [ ص: 624 ] ذلك حكايات متعددة يطول وصفها ، وأما القول بالإباحة وحل المحرمات - أو بعضها - للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول ، فإن هذا قول أئمة الأشعري الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ، ولهذا يضرب بهم المثل فيقال : فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع . وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام ، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء ، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم ، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ] [50] .
ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها - موجودة [51] في الشيعة .
وكثير من النساك يظنون [52] أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم ، وسبب ذلك أنه [53] يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار [54] ما يغيب [ به ] [55] عن حسه الظاهر ، حتى يظن أن ذلك [ هو ] شيء [56] يراه بعينه الظاهرة ، وإنما هو موجود في قلبه .
ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة [57] التي يراها خطاب الربوبية [ ص: 625 ] ويخاطبها أيضا بذلك ، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه ، وإنما هو موجود في نفسه ، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله . فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج .
[ وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ، ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول : أنا ربك . ومنهم من يقول : أنا نبيك ، وهذا قد وقع لغير واحد . ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ، ويكون المخاطب له جنيا ، كما قد وقع لغير واحد . لكن بسط ( الكلام ) [58] على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج ، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه ، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ] [59] .
وكثير من الجهال أهل الحال [60] وغيرهم يقولون : إنهم يرون الله عيانا في الدنيا ، وأنه يخطوا خطوات [61] .
[ وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم : كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده ، وقول بعضهم : إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله ، وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ ، لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من [ ص: 626 ] النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالات ، فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها ] [62] .
وأهل الوحدة [63] القائلون بوحدة الوجود ، كأصحاب ابن عربي وابن سبعين [64] [65] يدعون أنهم يشاهدون الله دائما ، فإن [ عندهم ] [66] مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد ، إذ كانت ذاته [67] الوجود المطلق الساري في الكائنات .
فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ، ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح ، كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ، ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة [ الوجود ] [68] . وكان التلمساني [69] شيخ القائلين بالوحدة [ الذي شرح " مواقف " [ ص: 627 ] النفري [70] . وصنف غير ذلك ] [71] قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا ، وحدثني نقيب الأشراف عنه [72] أنه قال : قلت له : أنت نصيري ؟ قال : نصير جزء مني [73] ; والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم .