الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بين ابن عباس ومعاوية  

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو النضر إسماعيل بن ميمون قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد قال: حدثني أمير المؤمنين الرشيد قال: حدثني أمير المؤمنين المهدي قال: حدثني أمير المؤمنين المنصور قال: حدثني أبي عن عكرمة قال: لما قدم معاوية الحجاز دخل عليه أبوك عبد الله بن عباس فسلم عليه، فقال له معاوية: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فقال له أبوك: الحمد لله الذي أنطقك يا معاوية بالحق، وعرفك حقنا وفضلنا، وأنا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقال له معاوية: فكيف رأيت الله عز وجل حيث حرمكم هذا الأمر الذي عرضتم له أكتافكم؟ فقال له أبوك: إنه كان من عزائم قدرة الله ما يذودنا عن الدنيا وموارد الهلكة أن قال: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ؛ فوالله يا معاوية لولا طاعة الله لما قدرت أن تغرف بدلوك في طوي شد عليه هاشم رشاء؛ فتضاحك معاوية وقال: أمازحك فلا تحلم يا ابن عباس؟ فقال له أبوك: عمن أحلم؟ عمن يرى أن له الفضل؟! ثم نفض ثوبه ليخرج فجذبه معاوية وقال: يا ابن عباس عندي ثوب من عصب اليمن وثوبان من نسج العجم فأهديهما إليك. فلبسهما أبوك وغدا عليه فيهما فقال الشاعر في ذلك:


إن الثياب بآل هاشم زينة تزهو ويضعف حسنها في المشهد     وبنو أمية في الثياب تراهم
شبه القرود أذلة في المحتد



هاشم، قريش. باهلة هل تصرف

قال القاضي: لم يصرف هذا الشاعر " هاشما " في شعره، أراد القبيلة، ولو أراد الحي أو اسم الأب لصرفه، وإن لم يصرف مع هذه النية لم يصب - في قول الخليل وسيبويه [ ص: 716 ] وجمهور البصريين - لأن الشاعر له أن يصرف في الشعر ما لا ينصرف في الكلام، وليس له ترك صرف المنصرف. وكان الأخفش يجيز ذلك وهو مذهب الكوفيين، وقد استشهدوا بأشياء وردت عليهم فيها، وليس هذا موضع استقصاء هذا الباب لكنا آثرنا ذكر جملة منه يقف بها ذو الفهم على الأصل فيه، ويجري عليه قياس باقيه. والذين أبوا ترك صرف ما لا ينصرف في الشعر يعتلون بأن الشاعر إذا اضطر إلى ما يتنكب في منثور الكلام رجع إلى أصله وليس له مفارقة الأصل وهدمه؛ والأصل في الأسماء الصرف، فإذا عرض في شيء منها ما يمنع منه استجيز في الشعر كون الصرف حملا على الأصل. فأما ترك صرف المصروف فنقض ما بني الكلام عليه في أصله.

والذين أجازوا هذا تعلقوا بأبيات أنشدوها على هذا الوجه الذي عابهم عليه به مخالفوهم. وقد دفع الأولون ما رووه عنهم وأنشدوا كثيرا منه على خلاف إنشادهم. فأما وجه ترك صرف هاشم في البيت الذي أتى في هذا الخبر ونظيره من الأسماء فلأنه ذهب به مذهب القبيلة دون اسم الرجل،  ودون حمله على أن اسم الحي. وإن مثل هذا في الشعر كثير. وهذا كقولهم حضرت قريش ومعد وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان، ألا ترى أنه لا يقال بنو قريش ولا بنو ثقيف. وقال الشاعر:


غلب المساميح الوليد سماحة     وكفى قريش المعضلات وسادها



وقال آخر:


بكى الخز من روح وأنكر جلده     وعجت عجيجا من جذام المطارف



وقال الأعشى:


ولسنا إذا عد الحصا بأقلة     وإن معد اليوم مود دليلها



ومثله باهلة، وهو اسم امرأة لا يقال فيه بنو باهلة إلا أنه لا يصرف، وإن جعل اسم الحي من أجل التأنيث. ونظير ما وصفنا سبأ قد صرف وترك صرفه، واختلف القراء فيه فصرفه بعضهم ولم يصرفه بعضهم، وأجراه بعضهم على مذهب الحكاية، وروى فروة - صوابه فروة بن مسيك الغطفاني - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن سبأ أهو اسم أرض أم امرأة، فقال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة فتيامن منهم أربعة وتشاءم ستة.  وقد أتى في العربية مصروفا وغير مصروف قال النابغة:


من سبأ الحاضرين مأرب إذ     يبنون من دون سيله العرما



ولم يذكر شيئا مما جاء منه مصروفا في الشعر؛ إذ لا حجة فيه من أجل جواز صرف ما ينصرف فيه. وبيت النابغة هذا يشهد لقول من قال: العرم المسناة أو البناء، ونصبه العرم بالفعل الذي هو يبنون كأنه قال: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مشهور القصص، قال الأعشى:

[ ص: 717 ]

ففي ذاك للمؤتسي أسوة     ومأرب قفى عليها العرم



قفى مثل عفى، وأول القصيدة:


أتهجر غانية أن تلهم     أم الحبل واه بها منجذم
أم الصبر أحجى فإن امرءا     سينفعه علمه إن علم



وذكر بعد هذا أبياتا تشتمل على جملة من بنائهم. وقد اختلف في معنى العرم فقيل هو البناء، وقيل هو المسناة بلغة أهل اليمن، وقد قال الأعشى في ذلك:


رخام بنته لهم حمير     إذا جاء دفاعه لم يرم



وقد يروى: إذا جاء ماؤهم. وقيل العرم الفارة وأنها خرقت من المسناة موضعا فاتسع وصار نبعا مفسدا بلغة أهل اليمن، وقال الأعشى في ذلك:


سعى جرذ فيهم ليلة     فخان بهم جارف منهدم



ومما يضارع هذا الباب في بعض فصوله ما أتى من ذكر أسماء الأمم ذوي الملل المختلفين في الآراء والنحل كالمجوس واليهود، قال الشاعر:


أصاح ترى بريقا هب وهنا     كنار مجوس تستعر استعارا



وقال آخر:


فرت يهود وأسلمت جيرانها     صمي لما فعلت يهود صمام

فلم يصرف يهود على ما بينا. وقالت امرأة من الأنصار:


خرج الصوم حامدا محمودا     رحل الصوم حامدا محمودا
دخل الشر في بيوت يهودا



وقال كعب بن مالك الأنصاري يؤنب العباس بن مرداس السلمي في مدحه قريظة وبكائه عليهم، ويشير إلى أن مدحه الأنصار كان أولى به.


أولئك أولى من يهود بمدحة     إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب



ونظير هذا ثمود، وكلامنا فيه مستقصى فيما ألفناه من علوم القرآن وذكر من صرفه ومن لم يصرفه في شيء من القرآن، ومن صرفه في بعض المواضع ولم يصرفه في بعضها، وهو واسع جدا وإنما نذكر من هذه الأنواع ما يدعو الناظر في كتابنا إلى التبغي في طلبه والحرص على استفادته، وقد تركت الإطالة بشرحه في غير موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية