الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
خبر سعد العشيرة  

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: وفد سعد العشيرة في مائة من ولده إلى بعض ملوك حمير، وكان سعد قد عمر مائة وخمسين سنة، فلما دخل على الملك قال له: ما معك يا سعد؟ قال: عشيرتي، قال: أنت سعد العشيرة. فسمي سعد العشيرة، قال له الملك: إنه قد بلغني عنك رجاحة لب، ورصانة حلم، وأصالة رأي، ونفاذ في الأمور، مع ما جربت من تصرف الدهور، فهل أنت مخبري عما أسائلك عنه؟ فقال: أيها الملك: إن عقلي وقلبي مضغتان مني، حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي، ولكني أبو روية ثاقبة ما خذلتني منذ أيدتني، فليقل الملك أسمع، فإن أوفق للصواب فبيمن الملك، وإن يخني الجواب، فبما ثلمته مني الأحقاب، قال له: يا سعد! ما صلاح الملك؟ قال: أيها الملك! معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طائعة، فإن في المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية التآلف والالتئام. قال له الملك: يا سعد! فمن أحمد الملوك إيالا، وأحسنهم عند الرعية حالا؟ قال: من كثرت في اصطناع المعروف رغبته، ومالت إلى الأضياف رحمته، وتخول بالمراعاة رعيته، واعتدلت بهيبته رأفته، قال: يا سعد! يستدرك عنه الملوك حسن المكانة؟ وتستبدل منه الفظاظة بالليانة؟ قال: بالمبالغة في طاعته، والانتهاء إلى مشيئته، ومجانية مسخطته، والتقرب إليه بموافقته، قال: فبم تؤمن سطوة الملك ويحتجب من بوادر [ ص: 167 ] عقوبته؟ قال: بالنصيحة غير الممذوقة، وأداء الأمانة غير المشوبة بالخيانة، وقطع لسان العتاب بالحيطة بالمغيب، والتحفظ عن إفشاء الكلمة في الطعن عليه، فإن الكلام إذا لفظه اللسان لم تملك إعادته إلى القلب، ولم يؤمن منه عثرة غير مقالة، وكبوة غير مغتفرة، قال: فأين يوجد الرأي الأصيل، والصواب الأليل؟ قال: عند الناصح اللبيب، الحازم الأريب، الذي إعلانه كمكنونه، ومبتذله كمصونه، قال: فبم يدرك علم الأمر في الولاج المأزول والرأي المستور في مستقر التامور؟ قال: بإحدى خلتين، إما بالعشيرة المماطلة، والتجربة المصاولة، أو بالمحبة البالغة، والبصيرة الثاقبة، قال: من أحق الناس بالمعاونة على دهره وأحراهم بالمساعدة على أمره؟ قال: من جعلك سندا لظهره، وألقى إليك مقاليد أمره، وجعل رجاءك عامر صدره، قال: بم تتأكد محبة الخاصة، ويستعطف رضا العامة؟ قال: ببسط يد العدل، أو إطلاق عقل البذل، والتجافي عن العثار، ما لم يخرج ذلك إلى انتشار، قال: فبم تحسن أحدوثة الملك؟ قال: بإرجائه العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن قبل الطلب، وتسليط الحلم والأناة على الطيش والنزق واستصلاح أولي الانقياد لاستجلاب أولي الرهق.

معنى الألفاظ اللغوية

قال القاضي: قول سعد العشيرة في عقله وقلبه: حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي معناه نقصهما، يقال: حرى الشيء يحري أي نقص، كما قال القائل:

في جسد ينمي وعقل يحري

وفي قوله: فبما ثلمته مني الأحقاب يعني السنين، قال الله عز وجل: لابثين فيها أحقابا والواحد حقب، قال الله تعالى: أو أمضي حقبا وقيل إن الحقب ثمانون عاما،  وقيل له: حقبة من الدهر يراد به المدة الطويلة، قال متم بن نويرة: يرثي أخاه مالكا:


وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

وقوله: أحمد الملوك إيالا: يعني الإصلاح والتدبير والسياسة، ويقال فلان حسن الإيالة إذا وصف بالإحسان في سياسة أمره، وقوله: الولاج المأزول يعني المدخل الضيق، ويقال: أصاب القوم أزل أي شدة وضيق.

قال الشاعر:


وإن أفسد المال الجماعات والأزل



فأما الإزل بكسر الهمزة: فالكذب، كما قال ابن دارة:


يقولون إزل حب ليلى وودها     وقد كذبوا ما في مودتها إزل

وقوله: التامور يريد القلب، ويعبر بالتامور عن النفس وهو الدم، يقال نفس سائلة أي دم، والنفاس والنفساء من هذا.

[ ص: 168 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية