قال القاضي أبو الفرج: هذا البيت الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قائله من الشعراء هو للبيد بن ربيعة، افتتح به كلمة فقال في أولها:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وبعده:وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
وأما قول لبيد في البيت الآخر: دويهية على التصغير، فمن الناس من يقول هو تصغير معناه التكبير، وجعله مثبتو الأضداد في اللغة من الأضداد، وقال بعضهم: بل هو على تصغيره، وإنما أريد به أنه إذا كان الصغير منه يبلغ هذه المبلغ، ويؤثر هذه الأثر فكبيره أعظم وأبلغ، ولي في هذا مذهب استخرجته بنظري، وما علمت أحدا سبقني إليه ولا تقدمني فيه، ولكن الله الذي يؤتي الحكمة من يشاء نبهني عليه، وهو أن الاسم المصغر في ذاته وقلة أجزائه فالحجيرة الصغيرة التي ليس حجرة كبيرة، وأما المتعلق بشيء يسير فكقولك: أتيتك قبيل العصر أو بعيد الفجر، فتبين أن المتقدم من الزمان في قولك قبيل يسير قليل، والمتأخر منه في قولك بعيد قصير ليس بطويل، ونحو هذا قديديمة وريئة في قدام ووراء يجري الأمر فيه من جهة الأمكنة مجراه فيما قدمناه من باب الأزمنة كما قال الشاعر:
قديديمة التجريب والحلم أنني أرى غفلات العيش قبل التجارب
رب كبير هاجه صغير وفي البحور تغرق النحور
لا تحقرن سبيبا كم جر أمرا سبيب
وقال هذا القائل: إن الذي اجتبيته في هذا غير مخالف للقول الثاني الذي قدمت حكايته عن قائله، فكان من جوابي لهذا القائل أن قلت له: إن الفرق بين قولي وقول من رغبت عن قوله وتسبقني إلى موافقته، أن هذا الذي حكيت قوله، يزعم أن الصغير المذكور إذا جر إلى ضرر فكبيره أبلغ في الضرر منه، وأنا ذهبت إلى أن هذا التصغير يؤثر تأثيرا كبيرا من حيث كان جنسه يؤثر نفعا أو ضرا بكيفيته دون كميته، وضربت لهذا المخاطب مثلا قربت هذا الفصل عينه حين بعد عنه إدراكه، إذ كان الفرق بين هذين القولين لطيفا جدا، وكان بينهما من بعض الوجوه تناسب وشبه تقارب. فقلت له: لما كان من الأشياء ما يكون عند قليل أجزائه منفعة جسيمة أو مضرة عظيمة، كالدرياق والسم بولغ في العبارة عن المنافع بها لاشتهار هذا المعنى، كقول الحباب بن المنذر: "أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب"، وفي الإخبار عن الجنس الضار قول لبيد: دويهية تصفر منها الأنامل، وجملة الفصل بين قولي وقول من خالفته وتوهمت أني وافقته أنه عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وقد يكون من الأشياء ما يؤثر قليله، وينتفي تأثيره عن كبيره، كالجروراء من الحيات والصرد والقرقس والبعوض من الجنس الواحد، وكنوع من الحيات ذوات الأجسام اللطيفة وعظيم ضررها، وقصور الحية الكبيرة المسماة الحفاث في ذلك عنها وإن كانت أعظم خلقا وأشنع منظرا، وقد قال أهل العلم بصناعة الطب: إن السقمونيا ينتفع بتناول مقدار فيه يسير ذكروه، ويقاربه في النفع والضر ما قاربه من الأجزاء في المبلغ والقدر، وأنه إذا بلغ من الكثرة مقدارا متفاوتا لم يضر كبير ضرر، ولم يظهر في أخذه ما يظهر بتناول قليله من الأثر في نفع ولا ضرر، ولقد حدثني بعض متفقهي القضاة أن قوما دسوا كثيرا من السقمونيا في بعض المطاعم الحلوة لرجل كانوا يعاشرونه، وكان معروفا بكثرة الأكل، وأنه أكل جميعه وانصرف عنهم، فندموا على ما كان منهم، وأشفقوا على هذا الرجل، وعملوا على الفحص عن أمره واستعلام خبره، فجاءهم يتأوه ويقول لهم: أي شيء أطعمتموني فقد عرض لي قولنج برح بي. وأما قول هذا المخاطب لي:
[ ص: 30 ] كيف يكون الداء دواء والسقم شفاء؟ فإن هذا قد يوجد معنى ويستعمل لفظا، وقد ظهر لعامة الناس وخاصتهم أن الداء المسمى خمار العارض عن الشراب المسكر يشفي منه شرب شيء مما تولد الخمار عنه، كما قال الشاعر:
وصرعة مخمور رفعت بقرقف وقد صرعتني قبل ذلك قرقف
فقام يداوي صرعتي متعطفا وكنت عليه قبلها أتعطف
يموت ويحيا تارة بعد تارة وتتلفنا هذي المدام وتخلف
إذا ما تسلقنا من الكأس سلوة تقاضى الكرى منها الذي نتسلف
تداويت من ليلى بليلى من الهوى كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني امرؤ أتيت المعيشة من بابها
يرمين من خلل الستور بأعين فيها السقام وبرء كل سقيم
سقم أوى أحسن عين تطرف تقوى به والقلوب تضعف
كالسم في الأفعى تقي وتحتف تحيا به وبالنفوس تتلف
دواء من أقصده بسقمه تكراره نحو مرامي سهمه
كالأفعوان يشتفى من سمه بشرب درياق كربه لحمه
وشفائي بسقم مقلة ظبي قد قلبي منه بأحسن قد
سقمها لي شفاء دائي إذا جادت وداء إذا تصدت لصد
عيني لعينك تبصر مقتل لكن عينك سهم حتف مرسل
ومن العجائب أن معنى واحدا هو منك سهم وهو مني مقتل
وهذا أفشى وأكثر وأبين وأظهر من أن نحتاج إلى الإطناب في شرحه وضرب الأمثال له، وقد حكي مما يدخل في هذا الباب أن بعض المترفين أسف إلى طريقة المتصوفة، واستشرف لصحبتهم والاختلاط بهم وملابستهم، فشاور في هذا بعض مشيختهم فرده عما تشوف إليه من هذا وحذره من التعرض له. فأبت نفسه إلا إجابة ما جذبته الدواعي إليه وعطفته الخواطر عليه، فمال إلى فريق من هذه الطائفة فعلق بهم واتصل بجلتهم، ثم صحب جماعة منهم متوجها إلى الحج فعجز في بعض الطريق عن مسايرتهم وقصر عن اللحاق بهم فمضوا وتخلف عنهم، واستند إلى بعض الأميال إرادة الاستراحة من الإعياء من الكلال، فمر به الشيخ الذي شاوره فيما حصل فيه قبل أن يتسنمه فنهاه عنه، وحذره منه، فقال هذا الشيخ مخاطبا له يقول:
إن الذين بخير كنت تذكرهم قضوا عليك وعنهم كنت أنهاكا
لا تطلبن حياة عند غيرهم فليس يحييك إلا من توفاكا
رب كبير هاجه صغير
وكما قيل:
ولا تحقرن سبيبا كم جر أمرا سبيب
وقد قالوا: القليل إلى القليل كثير، والذود على الذود إبل وقد يملأ القطر الإناء فيفعم والشر تحقره وقد ينمي، وقد يفني الجزء بعد الجزء الجملة، والشيء يتبع بعضه بعضا، وقد يؤدي انقطاع الحبة من السلك إلى انقطاع سائر ما فيه، ونزع الحجر من سور أو جدار يؤدي إلى تهافت باقيه، وقد قالوا: العصا من العصية، وفسره بعضهم أن الفرد ينبت وينشأ لينا صغيرا، ثم ينمى فيستطيل ويغلظ ويشتد ويصلب.
وقيل: بل المعنى إن العصا نتجت من أمها العصية، والعصا هي الدابة التي أشار إليها قصير على جذيمة بركوبها عند ظهور علامة ذكرها، إذ كانت على حد من الإحضار والسرعة والإهذاب، والجودة تفضل به ما هو من جنسها، وقد يكون الكثير من القليل، والجمار من الفسيل والفنيق من الفصيل.
[ ص: 32 ]