الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفود جرير على عبد الملك بن مروان

 حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن طهمان قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي عمرو الشيباني، قال: حدثني مروان بن أبي حفصة، قال: جلس عبد الملك بن مروان يوما للناس على سرير، وعند رجل السرير محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف، وجعل الوفود يدخلون عليه ومحمد بن يوسف يقول: يا أمير المؤمنين! هذا فلان، هذا فلان، إلى أن دخل جرير بن الخطفى فقال: يا أمير المؤمنين! هذا جرير بن الخطفى، قال: فلا حياه الله، القاذف للمحصنات والعاضه لأعراض الناس - قال أبو بكر بن الأنباري: العاضه: المغتاب، ويقال: العاضه: النمام، ويقال: الساحر، قال القاضي: ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن العاضهة والمستعضهة، يعني الساحرة والمستسحرة، قال الراجز:


الماء من عضاههن زمزمه



وقيل في قول الله تعالى: الذين جعلوا القرآن عضين أقوال منها: هذا، وهو أن [ ص: 191 ] المشركين قالوا: هو سحر، وقيل: إنهم عضوه بأن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقيل، بل اقتسموه بينهم استهزاء فقالوا: لفلان هذه السورة ولفلان هذه السورة، فعضوه كما تعضى الشاة وكما تجزأ أعضاء الجزور فتقسم وتوزع بين مقتسميها وهذا فيما يتضمن عنه بمشيئة الله وعونه كتابنا المسمى البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ونأتي على ما جاء فيه عن أهل العلم، وأصحاب التأويل والمفسرين، وعن أصحاب المعاني النحويين، ومن العضه السحر، ما أنشدنيه عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:


أعوذ بربي من النافثا     في عقد العاضه المعضه

وقال: يعني بهما الساحر، وقال أبو موسى الحامض: المعضه الذي يأتي بالأمر العظيم ثم يبهت - فقال جرير: يا أمير المؤمنين دخلت فاشرأب الناس نحوي، ودخل قوم بعدي فلم يشرئب الناس إليهم، فقدرت أن ذلك لذكر جميل ذكرني به أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: لما ذكرت لي قلت: لا حياه الله القاذف للمحصنات العاضه لأعراض الناس، فقال جرير: والله يا أمير المؤمنين ما هجوت أحدا حتى أجزه عرضي سنة، فإن أمسك أمسكت، وإن أقام استعنت عليه وهجوته، فقال له: هذا صديقك أبو مالك سلم عليه - يعني الأخطل - فاعتنقه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما هجاني أحد كان هجاؤه علي أشد من هجائه، إلا أني كنت أظن أنه يرشى على هجائي، فقال له الأخطل: كذبت وأتن أمك، قال له جرير: صدقت وخنازير أمك، فقال عبد الملك: أحضروا جامعة فأحضرت وغمز الوليد الغلام أن ناجز بها، فقال عبد الملك للأخطل: أنشد، فأنشد:


تأبد الربع من سلمى بأجفار     وأقفرت من سليمى دمنة الدار

حتى ختمها، فقال له عبد الملك: قضينا لك أنك أشعر من مضى ومن بقي. واستأذنت قيس عبد الملك في أن ينشد جرير فأبى، ولم يزل جرير مقيما دهرا يلتمس إنشاد عبد الملك وقيس تشفع له، وعبد الملك يأبى إلى أن أذن له يوما، فأنشده:


أتصحو بل فؤادك غير صاح     عشية هم صحبك بالرواح

فقال عبد الملك: بل فؤادك يا ابن اللخناء - قال أبو بكر: اللخناء: المنتنة الريح، فلما انتهى إلى قوله:


تعزت أم حزرة ثم قالت     رأيت الموردين ذوي اللقاح
تعلل وهي ساغبة بنيها     بأنفاس من الشبم القراح

قال أبو بكر: الشبم: البارد، والقراح: الماء الذي ليس معه لبن، والساغبة الجائعة، قال القاضي: ومن دعاء العرب: حلبت قاعدا وشربت باردا، يريدون كنت ذا غنم تحلبها وأنت قاعد ولا إبل لك تحلبها قائما، وشربت باردا أي ماء محضا، قال عبد الملك: لا [ ص: 192 ] أروى الله عيمتها، قال القاضي: العيمة: شهوة اللبن، يقال: عمت إلى اللبن أعيم عيمة، ومن دعاء العرب: ما له عام وغام وآم، فغام: قرم إلى اللبن ولم يقدر عليه، وآم: ماتت امرأته، كما قال الشاعر:


وأبنا وقد آمت نساء كثيرة     ونسوان سعد ليس فيهن أيم

معنى آمت نساء مات أزواجهن، وغام: عطش فلم يقدر على الماء، فلما انتهى إلى قوله:


ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

قال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا هكذا. فلما ختمها أمره بإعادتها، فلما أنشد:


أتصحو أم فؤادك غير صاح



لم يقل له ما قال في المرة الأولى، ولما ختمها أمر له بمائة ناقة بأداتها ورعاتها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين! اجعلها من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام.

قال القاضي: وقد كتبنا هذا الخبر عن أبي بكر بن الأنباري في مجلس آخر: فأتى به بزيادة في هذه القصيدة وأنشد فيه كلمة جرير كلها وفسر غريبها، وإذا عثرنا عليه رسمناه فيما نستقبله من مجالسنا هذه إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية