الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجلس التاسع والعشرون

الناس سواء كأسنان المشط

حدثنا إبراهيم بن المفضل بن حيان الحلواني، حدثنا أبو حمزة إدريس بن يونس الفراء، حدثنا علي بن عثمان بن عمر بن ساج، حدثنا سليمان بن عبد الله، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس سواء كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له ".  

قال القاضي: وقد تضمن هذا الخبر بألفاظه اللطيفة الجامعة، ومعانيه الشريفة النافعة، حكما متقبلة في العقل، ثابتة في الفضل، راجحة في ميزان العدل.

وقوله عليه السلام: " الناس سواء كأسنان المشط " من أبين الكلام النبيه، وأحسن التمثيل والتشبيه، وقد قال الشاعر:


سواسية كأسنان الحمار



فنحا هذا النحو في العبارة من التساوي والتشاكل، والاشتباه والتماثل.

فأما قول هذا الشاعر: سواسية.. فإن بعض علماء أهل اللغة ذكر أن السواسية هم المتساوون في الشبه، وأن هذا القول إنما يستعمل في الذم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس سواء كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية "، تأديب لهم وحض لهم على تفكرهم في أنفسهم، وأنهم يتساوون في الأصل، ويتفقون في الخلق والجبل، ويتفاوتون في منازل [ ص: 219 ] الفضل، ليرجعوا إلى المعرفة بأنفسهم، ويتنزهوا عن المنافسة التي تفسد ذات بينهم، ويجتنبوا البغي والتفاخر، والاستطالة بالتكاثر، وليشكر المفضل منهم ربه عز وجل؛ إذ أبانه بالفضل على من سواه، وخصه بنعمته دون كثير ممن عداه، ويؤدي حق مولاه فيما أولاه وأبلاه، فإن الناس على ما جاء في الأثر معافى ومبتلى، وقد أحسن الذي يقول:


الناس أشكال وشتى في الشيم     وكلهم يجمعه بيت الأدم



وقوله عليه السلام: " المرء كثير بأخيه " من بليغ الكلام ونفيس الحكم، لأن المرء يشد أخاه ويؤازره، ويعضده ويناصره، وقد أتى الخبر في الأمة الهادية أنها كالبنيان يشد بعضه بعضا.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر المؤمنين في تناصرهم وتواصلهم، أنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو من أعضائه، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.

وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا محمد بن زياد بن بردة، حدثنا أبو شهاب، عن الحسن، وعمرو، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون كرجل واحد، إذا اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر جسده ".

وفي استقصاء ما جاء في التعاطف والتواصل، والمصافاة والتباذل، من الروايات والآثار، والحكايات والأخبار، وتنوشد من منظوم الأشعار، طول ليس هذا من موضعه، واشتهاره عند العامة والخاصة، يغني عن الإسهاب فيه، والإطناب في ذكره، وإحضار جميع ما قيل فيه، وما خالفه، وإني لأستحسن ما أنشدته عن عبد الله بن المعتز وهو:


لله إخوان صحبتهم     لا يملكون لسلوة قلبا
لولا تستطيع نفوسهم بعدت     أجسامهم فتعانقت حبا



وقوله في الخبر: " ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له ".  من أفصح لفظ، وأوضح معنى.

وتأويله عندي: أنه لا خير لامرئ في صحبة من لا يرى لأخيه من المناصحة والمكافأة والمخالصة، وأخذ نفسه له بالإنصاف والمساعدة، والإسعاف والمرافدة، مثل الذي يراه له أخوه من ذلك، ومن كان لأخيه الصادق في مؤاخاته بهذه المنزلة فهو بالعدو أشبه منه بالولي.

وقد اختلف ذوو الفحص والتفتيش من أصحاب المعاني، في قول الشاعر:


وإني لأستحيي أخي أن أرى له     علي من الحق الذي لا يرى ليا



فقال بعضهم: معناه أنه لا يرى أن لي عليه حقا حسب ما أرى له من وجوب حقه علي، ووجهوه إلى نحو ما تأولناه.

وقال بعض المحققين من هذه الطائفة والمتحققين بتحصيل معانيها:

[ ص: 220 ] بل المعنى إني أستحيي أخي أن أرى له عندي من فضل سابق منه، ما لا يرى لي عنده من فضل، فيكون قد ثبت عندي حقا لم أثبت لنفسي عنده من الحق مثله.

وهذا أصح التأويلين، وأصوب المعنيين، وقوله:


وإني لأستحيي أخي أن أرى له

يشهد بصحة هذا التأويل، لأن قائلا لو قال لآخر: إني لأستحييك أن آتي من حسن عشرتك ما لا يأتي مثله في معاشرتي، لكان من الكلام الركيك الذي يستهجن ولا يستحسن، ولو قال له: إني لأستحييك أن تعاشرني من النبل ما لا أعاشرك بمثله، لكان من أبين الكلام وأفصحه، وأحسن معنى وأوضحه.

فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: في الخبر: " ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما تراه له "، فهو جار على عكس هذه الطريقة بحسب ما بيناه، وإنما يصح حمله على النحو الذي حملنا عليه تفسير البيت، لو كان قيل فيه: ولا خير لمن صحبته في صحبتك إذا لم تر له من الحق مثل الذي يرى لك، على ما تقدم من تلخيصنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية