حدثنا أبي رضي الله عنه ، قال : حدثنا أبو أحمد الختلي ، قال : أخبرنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا زكريا بن أبي خالد البلدي ، قال : حدثني عن إسحاق بن إبراهيم الوراق ، قال : خرجت إلى مقابر الأصمعي ، البصرة فإذا امرأة واقفة على قبر ، وهي تندب وتقول :
هل أخبر القبر سائليه وقر عينا بزائريه أم هل تراه أحاط علما
بالجسد المستكن فيه يا موت لو تقبل افتداء
كنت بنفسي سأفتديه أنعى بريدا لمجتديه
أنعى بريدا لمعتفيه أنعى بريدا إلى حزوب
تحسر عن منظر كريه أنعت من لا يحيط علما
بوصفه ندب واصفيه يا جبلا كان ذا امتناع
وركن عز لآمليه يا نخلة طلعها نضيد
يقرب من كف مجتنيه ويا مريضا على فراش
تؤذيه أيدي ممرضيه ويا صبورا على بلاء
كان به الله مبتليه يا موت ماذا أردت مني
حققت ما كنت أتقيه دهر رماني بفقد إلفي
أذم دهري وأشتكيه آمنك الله كل روع
وكل ما كنت تتقيه أسكنك الله في محل
يقصر عن وصف ذاكريه
قال القاضي رحمة الله عليه : هذه المراثي من أحسن المراثي وأبلغها من القلوب ، للطف معانيها ، ورقة حواشيها ، وقرب ألفاظها وعذوبتها ، وسماحة مجاريها وطلاوتها ، وقل [ ص: 310 ] ما أثر في قلبي منظوم تأثيرها عند إنشادها ، وكانت لي ابنة لطيفة المحل من قلبي ، نفيسة المنزلة في نفسي ، ذات محاسن كثيرة ، وفضائل غزيرة ، ورزقت حظا من حفظ التلاوة والآداب الدينية ، مع عقل رصين ونزاهة ودين ، وهبها الله لي بفضله ونعمته ، ثم استأثر بها بعدله ومشيئته ، فسلمت للرب جل جلاله قضاءه فيها وعرفت حسن اختياره لي ولها ، إذ كان خالقها أملك بها من والدها ومنشيها ، وأرحم بها من ثاكلها ، وصابرت عظيم المصاب بها ، ورضيت بثواب الله عوضا منها ، ولهجت بهذه الأبيات التي قدمت ذكرها فمكثت زمانا أقطع ليلي ونهاري بترجيعها والترنم بها ، وأستشفي بفيض دموعي ورفع عفيرتي بتردادها ، ولإعجابي بها رأيت إتباعها بذكر ما حضرني من الأخبار التي تضمنتها أنسا مني بإعادتها ، ولم أدخل بعض الآتية بها في بعض إذ كانت قد وقعت إلي من جهات شتى وطرق مختلفة .
فمن ذلك ما حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي ، قال : أخبرنا الزبير ، قال : قال عبد الملك بن قريب الأصمعي : خرجت ذات يوم في البادية فإذا أنا بامرأة إلى جانب قبر وهي تشير بيدها ، فقلت : ينبغي أن تكون هذه تندب أو ترثي ، فدنوت حتى قربت منها فإذا هي تقول :
هل خبر القبر سائليه أم قر عينا بزائريه
أم هل تراه أحاط علما بالجسد المستكن فيه
لو يعلم القبر من يواري تاه على كل من بليه
يا قبر لو تقبل افتداء كنت بنفسي سأفتديه
أنعى بريدا إلى حزوب تحسر عن منظر كريه
أندب من لا يحيط علما بوصفه ندب نادبيه
يا جبلا كان ذا امتناع وركن عز لآمليه
أنعى بريدا لمجتنيه أنعى بريدا لمعتفيه
يا نخلة طلعها نضيد يقرب من كف مجتنيه
تحلو نعم عنده سماحا وطيبها راتب بفيه
أيا صبورا على بلاء كان به الله مبتليه
ورواية ثالثة حدثنا الحسن بن القاسم الكوكبي ، قال : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، قال : حدثنا قال : سمعت إبراهيم بن عمر ، أنه أتى المقابر ذات يوم فإذا جارية كادت أن تختفي بين قبرين قلة ودمامة ، وهي تبكي بقلب موجع ، وكلام حزين ، ولفظ كأنه خرزات نظمن تحدرن ، وقد أدخلت رأسها في لوح القبر ، وهي تقول : الأصمعي
هل أخبر القبر سائليه أم قر عينا بزائريه
أم هل تراه أحاط علما بالبدن المستكن فيه
لو يعلم القبر ما يواري تاه على كل من يليه
يا موت لو تقبل افتداء كنت بنفسي سأفتديه
أنعى بريدا لمجتنيه أنعى بريدا لمعتفيه
أبكي بريدا إلى حزوب تحسر عن منظر كريه
يا جبلا كان ذا امتناع وركن عز لآمليه
يا نخلة طلعها هضيم يقرب من كف مجتنيه
ويا مريضا على فراش تؤذيه أيدي ممرضيه
ويا صبورا على بلاء كان به الله مبتليه
يا دهر ماذا أردت مني حققت ما كنت أتقيه
دهر رماني بفقد صبري أذم دهري وأشتكيه
ذهبت يا موت بابن أمي بالسيد الفاضل الوجيه