الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صناعة نقد الشعر  

ونقد الشعر والتحقيق في معانيه من الصناعات التي أكثر المضطلعين لها قد عدموا وقد قلوا ، وقد كان بعض من يختلف إلي للأخذ عني ، والقراءة علي من أهل بعض الأطراف ،

[ ص: 388 ] قد قرأ علي شيئا مما صنفه ابن السكيت في هذا المعنى وابن قتيبة ، وما ألفه أبو الفرج قدامة الكاتب في نقد الشعر والكتاب المنسوب إلى أبي عثمان الأشنانداني علق عني صدرا صالحا من الزيادة في ذلك ، وشرح مستغلقه وإيضاح شكله ، وتفسير مجمله ، وتلخيص مهمله ، وتخطئة من أخطأ في تأويله ، ثم غاب عني فانقطعت عن التفرغ لتتبع ما بقي منه ، وقد وقع إلينا في هذا الباب فقر حسنة عن شيخي هذه الصناعة في زمانهما وهما أبو العباس النحويان أحمد بن يحيى ، ومحمد بن يزيد ، وكان محمد بن يحيى الصولي يتكلم كثيرا في هذا النوع ، ويدعي فيه دعاوى يدفعه عن التقدم فيها ، ظهور تأخره عنها ، وتفاحش خطئه فيما يورده منها ، وقد أخرج قوم من هذا القبيل إعجابهم بأنفسهم ، وفساد تخيلهم ، إلى تخطئة الفحول من الشعراء الجاهليين ، ومن بعدهم من المخضرمين ، ومن بينهم من الإسلاميين الذين قولهم حجة على من بعدهم ، ومن تأخر عنهم ، فأحسن حالاته في هذا الباب أن يكون تبعا لهم ، فمن ذلك أن لغدة الأصبهاني أقدم على تخطئة الطبقة الأولى ، كامرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى ومن يجري مجراهم ، فخطأهم فيما أصابوا فيه فتفاقم خطؤه ، وتعاظم خطله ، وقد كنت أمللت على بعض من حضرني ما يتبين فيه قصور معرفته ، وضعف بصيرته ، ثم رأيت أبا حنيفة أحمد بن داود الدينوري قد صمد لكتاب لغدة هذا فنقضه ، وأورد أشياء صحيحة تنبئ على إغفاله وضعف تأمله ، ومع هذا فلسنا ننكر أن يخطئ الرئيس في عمله ، والسابق في فهمه ، فلا يضع ذلك من قدره ، ولا يحطه عن مرتبته ، إذ فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى ربنا عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم .

وقد كان للمتوكل خادم يعرف " بعرق الموت " قد شدا أشياء من الأدب ، وحفظ صدرا من الشعر إلا أنه حل بقلبه من النقص نحو ما حل بجسمه ، فظن أنه قد اضطلع بأفانين الأدب ، واطلع على بلاغات العرب ، وأخذ في نحو ما كان لغدة أخذ فيه ، ونسب امرأ القيس إلى ذهابه في بعض شعره عن صحة ترتيب نظمه ، ووصل الشكل بشكله ، وإلحاق المثل بمثله ، وحمل الفرع على أصله ، وتوهم عليه هذا الباب من العيب ، ونعاه عليه ، وتكلف بإغفاله إصلاحه عند نفسه ، بخطأ أتى به من عنده ، وذكر هذا في بيتين من كلمة امرئ القيس التي أولها :


ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي

والبيتان :


كأني لم أركب جوادا للذة     ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل     لخيلي كري كرة بعد إجفال

فظن أن امرأ القيس قلب وجه الترتيب ، وعدل عن محجة التأليف ، وأتى بذكر الجواد [ ص: 389 ] في صدر البيت وقرن به تبطن الكاعب ، ثم صدر البيت الثاني بسبئه الخمر وجعل عجزه في حثه الخيل على الكر ، وتوهم أن هذا متنافر غير متشاكل ، ومتخالف غير متماثل ، وأن الوجه في هذا لو تنبه عليه هو أن يقول :


كأني لم أركب جوادا ولم أقل     لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة     ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال



قال القاضي رحمه الله : ولو ثاب إلى هذا الخادم عازب لبه ، وفتح له القفل الضاغط عليه ، لتيقظ للوقوف على فساد توهمه ، ولتجلى له الخلل فيما آثره وقدمه ، وتعلم أن ترتيب امرئ القيس في هذين البيتين من أصح الترتيب وأحسنه ، وأوضح التأليف وأبينه ، وأنه متسق مستتب ، ومتفق متلئب ، ولاستفاد علما جما لما يتبينه من اطراده وتلاومه ، وائتلافه وتقاومه ، وأنه من أحسن الشعراء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكمة  وأنا مبين هذا بيانا كافيا ، وملخصه تلخيصا مفيدا شافيا إن شاء الله وبه التوفيق .

إن الجواد يركب لأغراض شتى ، منها المحاربة وشن الغارة وإدراك العدو والهارب ، وفوت الثائر الطالب ، وطلب الأوتار وأخذ الثأر ، والتماس المعيشة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران ، والسبق والنضال ، والتدرب بالفروسية والقتال ، والركض والرياضة ، والإسراع والمواشكة في الحاجة ، في لواحق هذه الأمور وتوابعها ، أو ما يقاربها ويضارعها ، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة ، وكانوا إذا كان لهم ذحل يحرمون الخمر على أنفسهم حتى يثأروا فحينئذ يستحلونها ، قال امرؤ القيس :


حلت لي الخمر وكنت امرأ     عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب     إثما من الله ولا واغل

ومنها القصد لضروب اللهو والمتعة ، والنشاط والرتعة ، والالتذاذ باختيال الجواد وقطعه الجدد ، فالركوب الذي قصد امرؤ القيس بقوله : كأني لم أركب جوادا ، إنما عنى به بعض ما فيه التذاذ ومتعة ، ولهو ورتعة ، وقد أبان ذلك بقوله : للذة ، فكان من أليق ما يليه ، ويقرن به ما جانسه في التمتع واللهو ، إذ لم يكن ركوبه للغارة والغزو فلذلك قال : ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ، ولو قال بعد قوله : كأني لم أركب جوادا للذة ، حسب ما اقترحه وقال الخادم وأشار به ، لكان قد أتى بمجمع من القول غير متسق ، ومضرب من التأليف غير متفق ، ولم يقدم هذا الخادم على هذا الرأي الفائل ، والتوهم الباطل ، إلا بعد حذفه من قول امرئ القيس ما ينكشف المعنى بإثباته ، ويزداد وضوحه بإحضاره ، وذلك قوله : للذة ، ولو لم يذكر اللذة لم يؤمن على مثل هذا أراد الشبهة وإن كانت من المتأمل الناظر ، والنحرير الماهر ، مأمور به لوجوب حسن الظن بامرئ القيس في نظمه ، ونسبته إلى وصل بعض كلامه بحسب ما يليق به ، وكيف وقد أوضح المعنى وأومأ إليه ، وأفصح [ ص: 390 ] به ونص عليه ، وأما قوله : " ولم أسبأ الزق الروي فإنه قد يسبأ زق الخمر للنادم واللذة ، والارتياح والنشوة ، وقد يسبأ للبيع والتجارة ولإهدائه إلى ذي المروءة لتحريك الطبائع بشربه على تذكر الأضغان والغمر ، وتهيج الحقد وطلب الوتر ، والجد في القيام بالثأر ، وتجرئة الجبان ، وتنشيط الجنان ، والسماحة في إدراك الشرف بالنفوس ، وبذل كل علق مضنة نفيس ، وأراد امرؤ القيس بما سبأه من الخمر هذه المعاني أو ما أراد منها ، فكان اللائق بقوله : ولم أسبأ الزق الروي أن يكون عجز بيته هذا ما وصفه في قوله : ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال فأغفل هذا الخادم المقصوص ، والأتي المنقوص ، هذا المعنى ، وأخذ من البيت الأول قوله للذة فألحقها بالبيت الثاني ، فلم يتم له بما غيره ما قدره ، وذهب عنه فهم ما رتبه امرؤ القيس وقرره ، وما ذكرنا من تقسم المعاني التي وصفنا بها سبايا الخمر أشهر في عرف الناس وكلام العرب من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه ، وقد قال الله جل وعز يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما وهذا معنى بين الصحة غير مشكل على ذي بصيرة ، قال : حسان بن ثابت :


نوليها الملامة إن ألمنا     إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا     وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

وقال الأعشى :


لعمرك إن الراح إن كنت سائلا     لمختلف عشيها وغداتها
لنا من صحاها خبث نفس وكأبة     وذكر هموم ما تغب أذاتها
وعند العشي طيب نفس ولذة     ومال كثير غدوة نشواتها

وقال المتنخل :


ولقد شربت من المدا     مة بالكبير وبالصغير
فإذا انتشيت فإنني     رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني     رب الشويهة والبعير

وهذا كثير جدا ، وقول امرئ القيس : لم أقل لخيلي كري ، أراد لفرسان خيلي ، كما قالت العرب : يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة ، أي : يا فرسان خيل الله ، وقال : الله جل ثناؤه ، وقوله أصدق القول وأحسنه واسأل القرية يعني أهلها ، وقال تعالى ذكره :

وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل في قول معظم أهل التأويل ، وذكر بعضهم أنه سحل وألقي في اليم فشربوه ، والقول الأول أولى بالصواب لأنه لا يقال في ما شرب ولحس من الماء وغيره قد أشربته في قلبي ، وإنما يقال : أشرب فلان حب فلان في قلبه أو عداوته وبغضه ، وذكرت أبياتا غزلة لبعض المحدثين فأوردتها ها هنا لأني استحسنتها [ ص: 391 ] ها هنا وفي بيت منها نحو هذا المعنى ، وهي :


وقد كنت أرجو في مغيبك سلوة     ولم أدر أن الطيف إن غبت طالبي
ووالله لا ينكى محب بمثلها     وإن كان مكروها فراق الحبايب
وأشرب قلبي حبها ومشى به     تمشي حميا الكأس في رأس شارب
يدب هواها في عظامي ولحمها     كما دب في الملسوع سم العقارب



التالي السابق


الخدمات العلمية