الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بين معاوية وابن الزبير

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني محمد بن الحسين عن سليمان بن أحمد قال : حدثني عبد الله بن محمد بن حبيب أن معاوية لما حج مر بالمدينة فلقيه عبد الله بن الزبير فقال : آدني على الوليد بن عتبة فقد تزايد خطله ، وذهب به جهله إلى غاية تقصر عنها الأنوق ، ودون قرارها العيوق ، فقال معاوية : والله ما يزال أحدكم يأتيني يغلي جوفه غلي المرجل على ابن عمه ، فقال ابن الزبير : أما والله ما ذاك عن فرار منه ولا جبن عنه ، ولقد علمت قريش أني لست بالفه الكهام ولا بالهلباجة النثر ، فقال له معاوية : إنك لتهددني وقد عجزت عن غلام من قريش لم يبر في سباق ولا ضرب في سياق ، وإن شئت خلينا بينك وبينه ، فقال ابن الزبير : ما مثلي يهارش به ، ولكن عندك من قريش والأنصار ومن ساكني الحجون والآطام من إن سألت حملك على محجة أبين من ظهر الجفير ، قال : ومن ذلك؟ قال : هذا ، يعنيأبا الجهم بن حذيفة ، فقال معاوية : تكلم يا أبا الجهم . فقال : أعفني ، قال : عزمت عليك لتقولن ، قال : نعم أمك هند ، وأمه أسماء بنت أبي بكر وأسماء خير من هند ، وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير ، ومعاذ الله أن يكون أبو سفيان مثل الزبير ، وأما الدنيا فلك وأما الآخرة فله ، إن شاء الله   .

شرح النص السابق

قال القاضي أبو الفرج : قول ابن الزبير لمعاوية : آدني على الوليد معناه أعدني ، وزعم بعضهم أن فلانا يستأدي على فلان أفصح من يستعدي ، وهما عندي سواء . وقد روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أعدني على رجل من أصحابك ، وقوله : تقصر عنها الأنوق ، يعني الرخم وهو يرتاد لبيضه شوامخ الجبال وحيث يبعد متناوله ويخفى مكانه ، فلا يكاد إنسان يجده أو يصل إليه ، والعرب تضرب المثل في من طلب ما يعز وجوده ويتعذر إدراكه ونيله فيقولون :

[ ص: 434 ] إنه يطلب بيض الأنوق . وقد روي لنا أن رجلا سأل معاوية حاجة معتاصة مستثقلة فرده عنها ، فسأله حاجة هي أيسر منها إلا أن فيها استصعابا ، فقال معاوية :


طلب الأبلق العقوق فلما لم ينله أراد بيض الأنوق

والأبلق : الفرس ، والعقوق : ذات الحمل ، وذلك في الذكر مستحيل . وبيض الأنوق ما فسرنا؛ فلما طلب هذا الرجل أمرا مستبعدا لا سبيل إليه ، ثم طلب ما ينال على صعوبة لما منع ما لا مطمع له فيه ، ضرب معاوية هذا البيت مثلا له . وهذا من المثال القريب والتشبيه المصيب . وأما العيوق فنجم عال معروف . وأما قوله : لست بالفه :  فمعنى الفهاهة في الكلام ما يأتي على غير استقامة ، ويقال : أتى فلان في قوله بفهة ، أي بقول ساقط في لفظه ومعناه . وأما الكهام فالكليل ، يقال : سيف كهام إذا كان نابيا كليلا . وأما الهلباجة فالأحمق .  وأما النثر فذو الرأي السخيف واللب الضعيف . كما قال الشاعر :


هذريان هذر هذاءة     موشك السقطة ذو لب نثر

وأما قول معاوية : لم يبر في سباق : أي لم يسبق مجاريا فيفضله ويظهر غلبته إياه ، يقال : أبر فلان على فلان إذا غلبه وزاد في الفضل عليه ، يبر إبرارا فهو مبر ، كما قال ذو الرمة يمدح بلال بن أبي بردة :


أبر على الخصوم فليس خصم     ولا خصمان يغلبه جدالا
ولبس بين أقوام فكل     أعد له الشغازب والمحالا

قال القاضي أبو الفرج : الشغازب : جمع شغزبة وأصله أن يدخل الرجل رجله بين رجلي الرجل فيصرعه ، يقال : صرعه شغزبية . والمحال الكيد والمكر ، من قول الله تعالى : وهو شديد المحال وأما قوله : ولا ضرب في سياق فمعناه أنه لم يرض فيحتنك ولم يؤخذ بالتثقيف ولذع التأديب فتستحكم عزيمته وتستحصد مرته . وأما قول ابن الزبير : " من ساكني الحجون والآطام " : فإن الحجون موضع بمكة معروف وإياه عنى الشاعر بقوله :


كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا     أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وقال آخر :


هيجتني إلى الحجون شجون     ليته قد بدا لعيني الحجون

وأما الآطام فإنها جمع أطم ، والعرب تسمي ما كان من البيوت مربعا كعبة ، وما كان مدورا أطما . وأما الجفير فإنه الكنانة ، وجمعه جفر ، قال الشماخ :


وخفت نواها من جنوب عنيزة     كما خف من نبل المرامي جفيرها

وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو : الكنانة جعبة السهام ، والكنانة هي الوفضة وجمعها وفاض؛ الكسائي مثله؛ الأحمر : الجفير والجشير جميعا الوفضة أيضا .

[ ص: 435 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية