الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إعجاب الأخطل بأبيات للقطامي

حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال : سأل عمرو بن سعيد القرشي الأخطل : أيسرك أن لك شعرا بشعرك؟ قال : لا والله ما يسرني أن لي بمقولي مقولا من مقاول العرب ، غير أن رجلا من قومي قد قال أبياتا حسدته عليها ، وايم الله إنه لمغدف القناع ، ضيق الذراع ، قليل السماع ، قال : ومن هو؟ قال : القطامي ، قال : وما هذه الأبيات؟ قال : قوله :


يمشي رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تنكل     من كل سامية العينين تحسبها
مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل     حتى وردن ركيات الغوير وقد
كاد الملاء من الكتان يشتعل     يمشين معترضات والحصى رمض
والريح ساكرة والظل معتدل     والعيش لا عيش إلا ما تقر به
عيني ولا حال إلا سوف ينتقل     إن تصبحي من أبي عثمان منجحة
فقد يهون على المستنجح العمل [ ص: 557 ]     والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل     قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل

 تعليق للقاضي وتفسيرات

قال القاضي : لعمري إن هذه الأبيات لمن رصين الشعر وبليغه ، وكلمة القطامي التي هذه الأبيات منها من أجود شعره ، وأولها :


إنا محيوك فاسلم أيها الطلل     وإن بليت وإن طالت بك الطول

ويروى الطيل .

وقد ذكر بعضهم أن أجود ما أتى من أشعار العرب على هذه العروض وهذا الروي هذه الكلمة وكلمة الأعشى التي أولها :


ودع هريرة إن الركب مرتحل     وهل تطيق وداعا أيها الرجل

وقول الأخطل : إنه لمغدف القناع المغدف : المغطى فكأنه نسبه إلى الخمول وقصوره عن الشرف وأن يكون بارزا مبديا صفحته مجدا وافتخارا ، كما قال سحيم بن وثيل الرياحي :


أنا ابن جلا وطلاع الثنايا     متى أضع العمامة تعرفوني

ويقال أغدفت المرأة قناعها كما قال عنترة :


إن تغدفي دوني القناع فإنني     طب بأخذ الفارس المستئم

وأما قول القطامي : يمشين رهوا فإنه أراد أنهن يمشين في سكون وتؤدة ، وقد قيل في قول الله تعالى : واترك البحر رهوا أي ساكنا وقيل طريقا يبسا . وحكي أن بعض العرب قال في فالج من الإبل : رهو بين سنامين . وقال بعض أهل المعرفة : لو كان القطامي قال هذا البيت في صفة النساء لكان قد أحسن . ومن الزهو قول الشاعر :


كأنما أهل حجر ينظرون متى     يرونني خارجا طير بباديد
طير رأت بازيا نضح الدماء به     وأمه خرجت رهوا إلى عيد

وقال عمرو بن كلثوم :


نصبنا مثل رهوة ذات حد     محافظة وكنا السابقينا

ويروى : نصبنا مثل رهوة وادحر .

قيل هي الخيل ، وقوله : والريح ساكرة يعني ساكنة ، وإذا كانت ساكنة فهي فعل الأشياء المفقودة المعدومة ، يقال سكر الشيء إذا سكن ، وقيل للسكر الذي هو منسكر الأودية والأنهار سكر ، لأنه سكن إذا انسد وعدمت سورته ، ومنه السكر من الشراب وغيره ، قيل فيه ذلك لاحتباس ما كان منطلقا من السكران وصحة رأيه وصواب منطقه ، وقيل سكر الحر إذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته ، كما قال الراجز :

جاء الشتاء واجثأل القبر [ ص: 558 ] واستخفت الأفعى وكانت تظهر

وجعلت عين الحرور تسكر

وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين لقالوا إنما سكرت أبصارنا بمعنى سدت وصعب النظر بإسكانها عن الحركة التي تدرك المبصرات بها . وقرأ جمهور القرأة سكرت بالتشديد للتكرار إذ كانت الأبصار جماعة ، وقرأ بعضهم سكرت بالتخفيف لدلالة هذه القراءة على المعنى ، ومثله فتحت أبوابها وفتحت في نظائر لهذا كثيرة ، وهي مشروحة فيما تضمنته الكتب في علوم القرآن من كلامنا وكلام من تقدمنا ، وبالتخفيف قرأ ابن كثير في من وافقه من المكيين . وقوله :


إن تصبحي من أبي عثمان منجحة     فقد يهون على المستنجح العمل

من الكلام الحسن في الإنباء عن أن من أنجح سعيه وأدرك ما ألمه هان عليه ما كان أنصبه وعناه وأتعبه في قصد مطلوبه ، ومثله قول سابق البربري :


إذا ما نال ذو طلب نجاحا     بأمر لم يجد ألم الطلاب

ونظائر هذا المعنى كثيرة يتعب إحصاؤها ويمل استقصاؤها .

التالي السابق


الخدمات العلمية