[ ص: 257 ] قالوا : وقال السيد المسيح  في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار : ( اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به ) . 
فيقال لهم : هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم  الثلاثة وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصا ولا ظاهرا ، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله ، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ولا سموا كلامه ابنه ، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده ابنه أو بنيه وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح  أراد بالعلم ابن الله وكلامه - دعوى في غاية الكذب على المسيح ،  وهو حمل للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازا ، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا . 
ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنا ، وقدرته ابنا ، فتخصيص العلم ، بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثان لو كان  [ ص: 258 ] لفظ الابن يستعمل في صفة الله ، فكيف إذا لم يكن كذلك . 
وكذلك روح القدس لم يستعملوها في حياة الله ، ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته ، وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء ، ويؤيدهم به كما في قول داود   : ( روحك القدس لا تنزع مني ) ، وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين ، وقد قدمنا أن روح القدس يراد به الملك ، ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة ، ومنه قوله في بعض النبوات : ( وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس ) وفي زبور داود   ( روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة . 
يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم : ( الذي من أجلنا - نحن البشر - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء   ) وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة ، والذي في الكتب  [ ص: 259 ] المقدسة لا يكون إلا حقا ، ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن ، وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم  فنفخ فيها فحملت بالمسيح  عليه السلام ، قال تعالى : 
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا   ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا   ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا   ( 19 ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا   ( 20 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا   ( 21 ) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا   . 
إلى آخر القصة ، وقال تعالى : 
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين   . 
وقال تعالى : 
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين  
 [ ص: 260 ] وهذا الروح هو الرسول كما قال : قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا   . 
ونفخ فيها من هذا الروح فكان المسيح  مخلوقا من هذا الروح ، ومن أمه مريم  كما قالوا في الأمانة : إنه تجسد من مريم  ، ومن روح القدس ، لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خلق المسيح  منها ومن مريم  هي حياة الله ، وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه ، بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا ، وهو أيضا مناقض لقولهم إن المتحد بالمسيح  هو أقنوم الكلمة ، وهو العلم ، فإن كان قد تجسد من مريم  ، وأقنوم الكلمة لم يكن متجسدا من روح القدس ، وإن كان من روح القدس لم يكن من الكلمة ، وإن كان منهما جميعا كان المسيح  أقنومين : أقنوم الكلمة وأقنوم الروح . 
والنصارى  بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون : إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة ، فتبين تناقضهم في أمانتهم ، وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء . 
وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد  خاتم النبيين لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء ، كما أنه لا يناقض  [ ص: 261 ] شيئا من كلامهم صريح المعقول ، وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ الابن وروح القدس وغيره على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه ، وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم  ، وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه وتبديل معاني كلام الله ، فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء ، ولا أرادوه به ، ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما . 
وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء ، ويفتري الكذب عليهم ؟ بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به - في لغتهم - الرب ، والابن الذي يريدون به - في لغتهم - المربي ، وهو هنا المسيح  وروح القدس وهو روح القدس الذي أيد الله به المسيح  من الملك والوحي وغير ذلك ، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم . 
				
						
						
