الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 291 ] فصل

وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسولا أيضا إلى ملك مصر  المقوقس ملك النصارى في ذلك الوقت بالإسكندرية ، وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، قال حاطب : قدمت على المقوقس - واسمه جريح بن مينا - بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر [ ص: 292 ] بغيرك ولا يعتبر بك . قال : هات . قلت : إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه ، إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدركت هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به . ثم ناوله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأه قال : خيرا ، قد نظرت في هذا فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة . ثم جعل الكتاب في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه ، وكتب جوابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد أكرمت رسولك . وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وبغلة تسمى الدلدل ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم هديته واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه ، فولدت منه إبراهيم وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت ، فولدت منه عبد الرحمن ، وعاشت البغلة إلى زمن معاوية ، فقال النبي صلى الله [ ص: 293 ] عليه وسلم : ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه .

قال محمد بن سعد : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ، قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من [ ص: 294 ] الهجرة بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية وكتب إليه معه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، فلما قرأ الكتاب قال له : خيرا ، وأخذ الكتاب ، وكان مختوما فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه ، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم جواب كتابه ، ولم يسلم ، وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره .

فكل من الملكين عظم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتواضع له ولكتابه ، واعترف بأنه الرسول المنتظر الذي بشرت به الأنبياء عليهم السلام .

وقد كان المقوقس يعرف أنه حق بما يسمع من صفاته من أهل الكتاب ، ولكن ضن بملكه ولم يؤمن ، وكان قد خرج إليه المغيرة قبل إسلام المغيرة فحدثه بذلك .

قال محمد بن عمر الواقدي : حدثني محمد بن سعد الثقفي ، وعبد الرحمن بن عبد العزيز ، وعبد الملك بن عيسى ، وعبد الله بن [ ص: 295 ] عبد الرحمن ومحمد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه وغيرهم ، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة منه ، قال : قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك ، وأنهم لما دخلوا على المقوقس ، قال : كيف خلصتم إلي من طائفتكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم ؟ قالوا : لصقنا بالبحر وقد خفناه على ذلك . قال : فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه ؟ قالوا : ما تبعه منا رجل واحد . قال : ولم ذاك ؟ قالوا : جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء ولا يدين به الملك ، ونحن على ما كان عليه آباؤنا . قال : فكيف صنع قومه ؟ قالوا : تبعه أحداثهم ، وقد لاقاه من خلفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن مرة تكون عليهم الدائرة ومرة تكون له . قال : ألا تخبروني إلى ماذا يدعو إليه ؟ قالوا : يدعونا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ، ونخلع ما كان يعبد الآباء ، ويدعو إلى الصلاة والزكاة . قال : وما الصلاة والزكاة ألها وقت يعرف وعدد تنتهي إليه ؟ قالوا : يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت وعدد قد سموه [ ص: 296 ] له ويؤدون من كل مال بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال ، وأخبروه بصدقة الأموال كلها . قال : أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها ؟ قالوا : يردها على فقرائهم ، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد ، وتحريم الزنا والخمر ، ولا يأكل مما ذبح لغير الله ، فقال المقوقس : هذا نبي مرسل إلى الناس ، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه ، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم ، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله ، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع البحور ، ويوشك قومه أن يدافعوه بالراح ، قالوا : فلو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا . قال المغيرة : فأنغض المقوقس رأسه ، وقال : أنتم في اللعب ، ثم قال : كيف نسبه في قومه ؟ قلنا : هو أوسطهم نسبا . قال : كذلك والمسيح الأنبياء تبعث في نسب قومها . ثم قال : فكيف حديثه ؟ قال : قلنا : ما يسمى إلا الأمين من صدقه . قال : انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله ؟ قال : فمن تبعه ؟ قلنا : الأحداث . قال : هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله . قال فما فعلت [ ص: 297 ] يهود يثرب فهم أهل التوراة ؟ قلنا : خالفوه ، فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه . قال : هم قوم حسدة حسدوه ، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف ؟ قال المغيرة : فقمنا من عنده ، وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى الله عليه وسلم وخضعنا له ، وقلنا : ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه ، ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا ، قال المغيرة : فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها ، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة يوحنا كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم لم أر قط أشد اجتهادا منه ، فأتيته فقلت : هل بقي أحد من الأنبياء ؟ قال : نعم ، هو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد ، وهو نبي مرسل وقد أمرنا عيسى باتباعه ، وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حمرة ، وليس بالأبيض ولا بالآدم ، يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب ويجتزي بما [ ص: 298 ] لقي من الطعام ، سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى ، يباشر القتال بنفسه ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم ، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم ، يخرج من أرض حرم ، ويأتي إلى حرم ، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل ، يدين بدين إبراهيم عليه السلام . قال المغيرة : فقلت له : زدني في صفته ، قال : يأتزر على وسطه ، ويغسل أطرافه ، ويخص بما لا تخص به الأنبياء قبله ; كان النبي يبعث إلى قومه ويبعث هو إلى الناس كافة ، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى ، ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع . قال المغيرة بن شعبة : فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك .

فذكر الواقدي حديثا طويلا في رجوعه وإسلامه ، وما أخبر به من [ ص: 299 ] صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ويحب أن يسمعه أصحابه . قال المغيرة : فكنت أحدثهم بذلك وهذا أمر معروف عند علماء أهل الكتاب وعظمائهم .

وقد أخرج أبو حاتم في صحيحه ، عن عمرو بن العاص ، أنه قال : خرج جيش من المسلمين - أنا أميرهم - حتى نزلنا الإسكندرية ، فقال عظيم من عظمائهم : أخرجوا إلي رجلا يكلمني وأكلمه ، فقلت : لا يخرج إليه غيري ، قال : فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه ، فقال : ما أنتم ؟ فقلت : نحن العرب ، ونحن أهل الشوك ، ونحن أهل بيت الله الحرام ، كنا أضيق الناس أرضا ، وأجهدهم عيشا ، نأكل الميتة والدم ، ويغير بعضنا على بعض ، حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ ، ولا بأكثرنا مالا ، فقال أنا رسول الله إليكم ، فأمرنا بما لا نعرف ، ونهانا عما كنا عليه ، وكان عليه آباؤنا ، فكذبناه ورددنا عليه مقالته ، حتى خرج إليه قوم غيرنا فقاتلنا وظهر علينا وغلبنا ، وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم ، ولو يعلم من ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش . فضحك ، ثم قال : إن رسولكم قد صدق ، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم ، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه ، ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه ، وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة   .

التالي السابق


الخدمات العلمية