[ ص: 107 ] ثم قالوا : وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول :
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
فذكر القسيسين والرهبان ، لئلا يقال : إن هذا قيل عن غيرنا ، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا ، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة .
والجواب أن يقال : تمام الكلام :
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين [ ص: 108 ]
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذين قال فيهم : فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الشهداء الذين قال فيهم :
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
ولهذا قال وغيره في قوله : ابن عباس
[ ص: 109 ] فاكتبنا مع الشاهدين .
قال مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته .
وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون :
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
وقال - تعالى - :
ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( 77 ) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس .
وأما قوله في أول الآية :
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى .
فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى ، عداوة المشركين والنصارى أقرب مودة لهم ، وهذا معروف من أخلاق اليهود ، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى .
[ ص: 110 ] وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود ، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم ، فكيف ببغضهم للمؤمنين .
وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا ، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم ، المؤمنين بجميع الكتب والرسل ؟
وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله ، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب ، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة ، وقوله - تعالى - :
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
أي بسبب هؤلاء ، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين .
ثم قال - تعالى - :
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق .
فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة ، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين ، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم ، كقوله - تعالى - :
[ ص: 111 ] الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
وكأن جنس الناس ، قالوا لهم : إن جنس الناس ، قد جمعوا ويمتنع العموم ، فإن القائل من الناس ، والمقول له من الناس ، والمقول عنه من الناس ، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس : إنه قد جمع لكم جميع الناس .
ومثل ذلك قوله - تعالى - :
وقالت اليهود عزير ابن الله .
أي جنس اليهود قال هذا ، لم يقل هذا كل يهودي ، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود ، وهذا حق ، وأما قولهم : ونفى عنا اسم الشرك ، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين ، وأهل الكتاب في عدة مواضع ، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع ، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق ، فالأول كقوله - تعالى - :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين .
[ ص: 112 ] وقوله - تعالى - :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا .
وقال - تعالى - :
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .
وأما وصفهم بالشرك ففي قوله :
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .
فنزه نفسه عن شركهم ، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك ، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد ، والنهي عن الشرك ، كما قال - تعالى - :
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .
[ ص: 113 ] وقال - تعالى - :
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .
وقال - تعالى - :
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه ، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ، لا نبي ولا ملك ، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ، ويقول : اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين ، ويقول : اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل ، ولا مصورة في الحيطان ، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة ، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل ، وتعظيمهم والاستشفاع بهم ، وطلبوا منهم أن يسألوا الله - تعالى - ، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها ، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن [ ص: 114 ] المقصود دعاء أصحابها ، كما فعله جهال المشركين ، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته ، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه ، ويقول : أنا الخضر ، أنا المسيح ، أنا جرجس ، أنا الشيخ فلان . لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن ،
كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى ، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم ، وقد يقضي بعض حاجاتهم ، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا ، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك .
وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك ، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة ، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة ، فليسوا على التوحيد المحض ، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل ، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة ، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة .
وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب ، وغيرهم كقوله - تعالى - :
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا .
[ ص: 115 ] فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار ، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء ، كما كان ينهى عن نكاح النصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن عيسى ربها . عبد الله بن عمر ،
وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم .
وأما جمهور السلف والخلف ، فيجوزون ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا : هذه الآية [ ص: 116 ] مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله - تعالى - : نكاح الكتابيات
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان .
وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب .
وأما النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين ، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله : كون
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى .
أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود .
وكذلك قوله :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين .
ونحو ذلك ، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران [ ص: 117 ] فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره ، كلفظ المعروف والمنكر في قوله - تعالى - :
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .
فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف ، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر .
وفي قوله : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس .
فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس .
وكذلك المنكر في قوله :
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .
قرن الفحشاء بالمنكر ، وقوله :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
قرن الفحشاء بالمنكر والبغي .
وكذلك لفظ البر والإيمان ، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى ، كقوله :
[ ص: 118 ] ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين .
وقال :
إن الأبرار لفي نعيم .
وقوله :
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .
وقد يقرنه بغيره كقوله :
وتعاونوا على البر والتقوى .
وقوله :
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وكذلك لفظ الفقير ، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر .
وقد يجمع بينهما في قوله :
إنما الصدقات للفقراء والمساكين .
[ ص: 119 ] فيكونان هنا صنفين ، وفي تلك المواضع صنف واحد ، فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله :
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
يدخل فيه جميع الكفار ، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده ، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين .
وفي صحيح عن مسلم بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين [ ص: 120 ] وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . كان إذا أرسل أميرا على سرية ، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا ، وقال لهم : اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار
وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية ، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - النصارى بالشام ، واليهود باليمن .
وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، ولكن تنازعوا في وهذا مبسوط في موضعه .
الجزية : هل تؤخذ من غير أهل الكتاب ؟