الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 121 ] قالوا وقال في سورة البقرة :

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

فساوى بهذا القول بين سائر الناس : اليهود والمسلمين وغيرهم .


والجواب أن يقال :

أولا : لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم ، فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين ، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود [ ص: 122 ] كفار من حين بعث المسيح إليهم فكذبوه .

وكذلك الصابئون من حين بعث إليهم رسول فكذبوه ، فهم كفار . فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ففيها مدح دين اليهود أيضا ، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين .

وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل .

وكذلك يقال لليهودي ، إن احتج بها على صحة دينه .

وأيضا ، فإن النصارى يكفرون اليهود ، فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود ، وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما ، وقد سوت بينهما .

فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل ، وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى - عليه السلام - ، وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل ، والنصارى الذين اتبعوا المسيح - عليه السلام - ، وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل .

[ ص: 123 ] والصابئين وهم الصابئون الحنفاء ، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ .

فإن العرب من ولد إسماعيل ، وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة ، وهو عمرو بن لحي ، وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك ، وتحريم ما لم يحرمه الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه - أي أمعاءه - في النار وهو أول من بحر البحيرة ، وسيب [ ص: 124 ] السوائب ، وغير دين إبراهيم .

وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين ، فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ، ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى :

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ، ولا باليوم الآخر وعمل صالحا ، كما قال - تعالى - :

[ ص: 125 ] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

وقد تقدم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح ، وكذبوا بالمسيح أو بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع ، وتلك آيات صريحة ، ونصوص كثيرة ، وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - .

ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل ، يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا ، ويتمسكون بالمتشابه المحتمل ، وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم ، كما قال - تعالى - فيهم وفي أمثالهم :

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية