الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 129 ] قالوا : ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم ، فقال عن كلمة الله :

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا .

والجواب :

إن الله - تعالى - لم يبعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بإهمال ما يجب من حق المسيح - عليه السلام - ، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به ، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح - عليه السلام - ، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله [ ص: 130 ] المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه ، وما نسخه من شرع موسى .

فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى - عليه السلام - ، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى - عليه السلام - ، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل ، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح ، بل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل ، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال - تعالى - :

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .

والنصارى كاليهود ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب ، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله ، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله ، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان ؟

[ ص: 131 ] قال - تعالى - :

وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .

وقال - تعالى - :

قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

فالمسلمون لم يهملوا روح القدس ، وكلمة الله ، وقد قال - تعالى - عن كلمة الله :

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته .

، بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء - عليهم السلام - جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي [ ص: 132 ] - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد .

وقد قال - تعالى - :

شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .

فدين المرسلين كلهم دين واحد ، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد ، فإن دين المسيح هو دين موسى ، وهو دين الخليل قبلهما ، ودين محمد بعدهما ، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى .

كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة .

والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا - صلى الله [ ص: 133 ] عليه وسلم - بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم ، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح .

والمسلمون أشد تعظيما للمسيح - عليه السلام - واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى ، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه ، ولا يفسرون كلامه بغير مراده ، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى ، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء ، ( وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله ) القائمة بذاته سبحانه و - تعالى - تسمى ابنا ، ولا روح قدس ، ولا تسمى صفته القديمة ابنا ، ولا روح قدس ، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق .

والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله ، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل : ( أنت ابني بكري ) ، ولداود ( أنت ابني [ ص: 134 ] وحبيبي ) ، وأن المسيح قال للحواريين ( أبي وأبيكم ) ، فجعله أبا للجميع ، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق ، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت ، قديم أزلي مولود غير مخلوق .

وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع ، وهو المخلوق ، وهو الابن بالطبع ، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق ، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا ، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق ، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا .

وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء [ ص: 135 ] - عليهم السلام - لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به .

وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء ، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده ، ومما ينزل بذلك من الملائكة ، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح ، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم : إن روح القدس كانت في داود وغيره ، وكانت أيضا عندهم في الحواريين .

وهكذا خاتم الرسل ، كان يقول لحسان بن ثابت : إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه ، ويقول اللهم أيده بروح القدس .

وقد قال الله - تعالى - عن عباده المؤمنين :

لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه .

[ ص: 136 ] فروح القدس لا اختصاص للمسيح - عليه السلام - بها ، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس ، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل ، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره .

فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر .

والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون : إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم ، ولم يسلطهم عليه .

والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام ، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة ، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه ، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس ، ويقولون مع هذا : إنه رب السماوات والأرض وما بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية