وقوله : والفتنة أشد من القتل روي عن جماعة من السلف أن المراد بالفتنة هاهنا الكفر ، وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب ويكرهونهم على الكفر ، ثم عيروا المؤمنين بأن قتل واقد بن عبد الله وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي وكان مشركا في الشهر الحرام ، وقالوا : قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام ؛ فأنزل الله والفتنة أشد من القتل يعني: كفرهم وتعذيبهم المؤمنين في البلد الحرام وفي الشهر الحرام أشد وأعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام .
وأما قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن المراد بقوله : حتى يقاتلوكم فيه حتى يقتلوا بعضكم ، كقوله : ولا تلمزوا أنفسكم يعني " بعضكم بعضا " ؛ إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن يقتلوهم كلهم ، وقد أفادت الآية حظر بمكة لمن لم يقتل فيها ، فيحتج بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل ، ويحتج أيضا بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى القتل الحرم في أنه لا يقتل ؛ لأن الآية لم تفرق بين من قتل وبين من لم يقتل في حظر قتل الجميع ، فلزم بمضمون الآية أن لا نقتل من وجدنا في الحرم سواء كان قاتلا أو غير قاتل إلا أن يكون قد قتل في الحرم ، فحينئذ يقتل بقوله : فإن قاتلوكم فاقتلوهم فإن قيل : هو منسوخ بقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قيل له : إذا أمكن استعمالها لم يثبت النسخ ، لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه ، فيكون قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة في غير الحرم ، نظيره في حظر [ ص: 323 ] قتل من لجأ إلى الحرم وإن كان جانيا ، قوله : ومن دخله كان آمنا وقد تضمن ذلك أمنا من خوف القتل ، فدل على أن المراد : من دخله وقد استحق القتل أنه يأمن بدخوله ، وكذلك قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا كل ذلك دال على أن اللاجئ إلى الحرم المستحق للقتل يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره إليه ومع ذلك فإن قوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله إذا كان نازلا مع أول الخطاب عند قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فغير جائز أن يكون ناسخا له ؛ لأن النسخ لا يصح إلا بعد التمكن من الفعل ، وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد ، وإذا كان الجميع مذكورا في خطاب واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل ، فغير جائز لأحد إثبات تاريخ الآيتين وتراخي نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح .
ولا يمكن أحدا دعوى نقل صحيح في ذلك ؛ وإنما روي ذلك عن فقال : هو منسوخ بقوله : الربيع بن أنس وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال : هو منسوخ بقوله : قتادة فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وجائز أن يكون ذلك ، تأويلا منه ورأيا ؛ لأن قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في ذلك ، وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون قوله : فاقتلوا المشركين مرتبا على قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فيصير قوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا عند المسجد الحرام ، إلا أن يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس وأبي شريح الخزاعي ، وأبي هريرة مكة فقال : يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة وفي بعض الأخبار : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح فثبت بذلك حظر القتال في فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أحلت لي ساعة من نهار الحرم إلا أن يقاتلوا ، وقد روى عبد الله بن إدريس عن قال : حدثني محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أبي شريح الخزاعي هذا الحديث ، وقال فيه : ، ويدل عليه أيضا ما روي عن وإنما أحل لي القتال بها ساعة من نهار خزاعة رجلا من هذيل ، ثم قال : إن أعتى الناس على الله ثلاثة رجل قتل غير قاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل قتل بذحل الجاهلية وهذا يدل على [ ص: 324 ] تحريم القتل في النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يومئذ حين قتل رجل من الحرم لمن لم يجن فيه من وجهين :
أحدهما : عموم الذم للقاتل في الحرم ، والثاني : قد ذكر معه قتل من لم يستحق القتل ، فثبت أن المراد قتل من استحق القتل فلجأ ، وأن ذلك إخبار منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه .
وهذه الآي التي تلوناها في حظر قتل من لجأ إلى الحرم فإن دلالتها مقصورة على حظر القتل فحسب ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس ؛ لأن قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام مقصور على حكم القتل ؛ وكذلك قوله : ومن دخله كان آمنا وقوله : مثابة للناس وأمنا ظاهره الأمن من القتل ، وإنما يدخل ما سواه فيه بدلالة ؛ لأن قوله : ومن دخله اسم للإنسان ، وقوله : كان آمنا راجع إليه ، فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه ، ومع ذلك فإن كان اللفظ مقتضيا للنفس فما دونها ، فإما خصصنا ما دونها بدلالة وحكم اللفظ باق في النفس ، ولا خلاف أيضا أن الحرم وعليه دين أنه يحبس به وأن دخوله من لجأ إلى الحرم لا يعصمه من الحبس ، كذلك الحرم لا يعصمه منه قياسا على الديون . كل ما لم يكن نفسا من الحقوق فإن
وأما قوله عز وجل : فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم يعني فإن انتهوا عن الكفر فإن الله يغفر لهم ؛ لأن قوله : فإن انتهوا شرط يقتضي جوابا ، وهذا يدل على أن ؛ إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل ، وقد أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له . قاتل العمد له توبة