وأما قال الله تعالى : مقدار الجزية حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلم تكن في ظاهر الآية دلالة على مقدار منها بعينه . وقد اختلف الفقهاء في مقدارها ، فقال أصحابنا : { على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما ، وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما } ، وهو قول . وقال الحسن بن صالح : { أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء لا يزاد ولا ينقص } . وقال مالك { دينار على الغني والفقير } . وروى الشافعي أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : بعث عمر بن الخطاب فوضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثني عشر درهما . وروى عثمان بن حنيف عن الأعمش إبراهيم بن مهاجر عن قال : بعث عمرو بن ميمون عمر بن الخطاب على ما وراء حذيفة بن اليمان دجلة وبعث على ما دون عثمان بن حنيف دجلة ، فأتياه فسألهما : كيف وضعتما على أهل الأرض ؟ قالا : وضعنا على كل رجل أربعة دراهم في كل شهر ، قال : ومن يطيق هذا ؟ قالا : إن لهم فصولا فذكر ثمانية وأربعين درهما ، ولم يفصل الطبقات ، وذكر عمرو بن ميمون حارثة بن مضرب تفصيل الطبقات الثلاث ، فالواجب أن يحمل ما في حديث على أن مراده أكثر ما وضع من الجزية ، وهو ما على الطبقة العليا دون الوسطى والسفلى . عمرو بن ميمون
وروى عن مالك عن نافع أسلم : أن ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام وهذا نحو رواية عمر ؛ لأن أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعين درهما ، فكان الخبر الذي فيه تفصيل الطبقات الثلاث أولى بالاستعمال لما فيه من الزيادة ، وبيان حكم كل طبقة ؛ ولأن من وضعها على الطبقات فهو قائل بخبر الثمانية والأربعين ، ومن اقتصر على الثمانية والأربعين فهو تارك للخبر الذي فيه ذكر تمييز الطبقات ، وتخصيص كل واحد بمقدار منها . واحتج من قال [ ص: 291 ] بدينار على الغني والفقير بما روي عن عمرو بن ميمون معاذ : اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر ، وهذا عندنا فيما كان منه على وجه الصلح أو يكون ذلك جزية الفقراء منهم ، وذلك عندنا جائز ، والدليل عليه ما روي في بعض أخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى معاذ أن ، ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا إلا أن يقع الصلح عليه . المرأة لا تؤخذ منها الجزية
وروى أبو عبيد عن عن جرير منصور عن الحكم قال : معاذ ، وهو باليمن : إن في الحالم والحالمة دينارا أو عدله من المعافر قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبو عبيد : وحدثنا عثمان بن صالح عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن قال : عروة بن الزبير اليمن : إنه من كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا ينقل عنها وعليه الجزية وعلى كل حالم ذكر أو أنثى عبد أو أمة دينار أو قيمته من المعافر ، ويدل على أن الجزية على الطبقات الثلاث أن خراج الأرضين جعل على مقدار الطاقة ، واختلف بحسب اختلافها في الأرض وغلتها ، فجعل على بعضها قفيزا ودرهما وعلى بعضها خمسة دراهم وعلى بعضها عشرة دراهم فوجب على ذلك أن يكون كذلك حكم خراج الرءوس على قدر الإمكان والطاقة ، ويدل على ذلك قول كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف : لعلكما حملتما أهل الأرض ما لا يطيقون ؟ فقالا : بل تركنا لهم فضلا . وهذا يدل على أن الاعتبار بمقدار الطاقة ، وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار ، واليسار . وذكر أن الجزية على مقدار الاحتمال بغير توقيت ، وهو خلاف الإجماع . وحكي عن يحيى بن آدم أنه لا تجوز الزيادة في الجزية على وظيفة الحسن بن صالح ، ويجوز النقصان على حسب الطاقة . وقد روى عمر الحكم عن أنه شهد عمرو بن ميمون يقول عمر لعثمان بن حنيف : والله لئن وضعت عن كل جريب من الأرض قفيزا ودرهما ، وعلى كل رأس درهمين لا يشق ذلك عليهم ، ولا يجهدهم قال : وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين . واحتج من قال بجواز الزيادة بهذا الحديث ، وهذا ليس بمشهور ، ولم تثبت به رواية ، واحتجوا أيضا بما روى عن أبو اليمان عن صفوان بن عمرو : أنه فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين ، وهذا عندنا على أنه ذاهب من الطبقة الوسطى ، فأوجب ذلك عليهم ما رأى من احتمالهم له ، كما روى عمر بن عبد العزيز عن سفيان بن عيينة قال : سألت ابن أبي نجيح : لم وضع مجاهدا على أهل عمر الشام من الجزية أكثر مما ، وضع على أهل اليمن ؟ قال : لليسار .
[ ص: 292 ] في تمييز الطبقات
قال في كتاب الخراج : { تؤخذ منهم على الطبقات على ما وصفت ثمانية وأربعين على الموسر مثل الصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة ، والتاجر والمعالج والطبيب وكل من كان في يده منهم صنعة وتجارة يحترف بها أخذ من أهل كل صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون على الموسر وأربعة وعشرون من المتوسط ، من احتملت صناعته ثمانية وأربعين أخذ منه ذلك ، ومن احتملت أربعة وعشرين أخذ ذلك منه ، واثنا عشر على العامل بيده مثل الخياط والصباغ والجزار والإسكاف ومن أشبههم } . فلم يعتبر الملك ، واعتبر الصناعات ، والتجارات على ما جرت به عادة الناس في الموسر والمعسر منهم . وذكر أبو يوسف من غير أن عزى ذلك إلى أحد من أصحابنا أن الطبقة الأولى من يحترف ، وليس له ما يجب في مثله الزكاة على المسلمين ، وهم الفقراء المحترفون ، فمن كان له أقل من مائتي درهم فهم من أهل هذه الطبقة ، قال : والطبقة الثانية أن يبلغ مال الرجع مائتي درهم فما زاد إلى أربعة آلاف درهم ؛ لأن من له مائتا درهم غني تجب عليه الزكاة لو كان مسلما فهو خارج عن طبقة الفقراء ، قال : وإنما أخذنا اعتبار الأربعة الآلاف من قول علي بن موسى القمي رضي الله عنه علي : { أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوق ذلك فهو كثير } قال : وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم ، وما زاد على ذلك فهو من الطبقة الثالثة لما روى وابن عمر عن حماد بن سلمة طلحة بن عبد الله بن كريز عن أبي الضيف عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة . وهذا الذي ذكره هو اجتهاد يسوغ القول به لمن غلب في ظنه صوابه . وقوله تعالى : علي بن موسى القمي عن يد قال : { عن قهر } كأنه ذهب في اليد إلى القوة والقدرة والاستعلاء فكأنه قال : على استعلاء منكم عليهم ، وقهرهم . وقيل : قتادة عن يد يعني عن يد الكافر . وإنما ذكر اليد ليفارق حال الغصب ؛ لأنه يعطيها بيده راضيا بها حاقنا بها دمه ، فكأنه قال : حتى يعطيها ، وهو راض بها . ويحتمل : عن يد عن نعمة ، فيكون تقديره : حتى يعطوا الجزية عن اعتراف منهم بالنعمة فيها عليهم بقبولها منهم . وقال بعضهم : عن يد يعني عن نقد من قولهم : يدا بيد . وقال : كل من أطاع القاهر بشيء أعطاه عن طيب نفس ، وقهر له من يد في يده فقد أعطاه عن يد . قال : والصاغر الذليل الحقير . وقوله أبو عبيدة معمر بن المثنى وهم صاغرون قال : يمشون [ ص: 293 ] بها ملببين ، وقال ابن عباس سلمان : مذمومين غير محمودين وقيل : إنما كان صغارا لأنها مستحقة عليهم يؤخذون بها ، ولا يثابون عليها ، وقال : الصغار إعطاء الجزية قائما والأخذ جالسا . وقيل : { الصغار الذل } . ويجوز أن يكون المراد به الذلة التي ضربها الله عليهم بقوله : عكرمة ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس والحبل الذمة التي عهدها الله لهم ، وأمر المسلمين بها فيهم .
وروى عبد الكريم الجزري عن أنه كان يستحب أن يتعب سعيد بن المسيب الأنباط في الجزية إذا أخذت منهم . قال : ولم يرد بذلك تعذيبهم ، ولا تكليفهم فوق طاقتهم ، وإنما أراد الاستخفاف بهم ، وإذلالهم . أبو بكر
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع إسحاق بن الحسن : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا عن سفيان سهيل عن أبيه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي مطير قال : حدثنا يوسف الصفار قال : حدثنا عن أبو بكر بن عياش سهيل عن أبيه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة اليهود والنصارى . فهذا كله من الصغار الذي ألبس الله الكفار بكفرهم ؛ ونحوه قوله تعالى : لا تصافحوا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية ، وقال : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فنهى في هذه الآيات عن موالاة الكفار وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذلالهم ونهى عن الاستعانة بهم في أمور المسلمين لما فيه من العز ، وعلو اليد .
وكذلك كتب إلى عمر ينهاه أن يستعين بأحد من أهل الشرك في كتابته ، وتلا قوله تعالى : أبي موسى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا وقال : لا تردوهم إلى العز بعد إذلالهم الله . وقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون قد اقتضى وجوب قتلهم إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة ، فغير جائز على هذه القضية أن تكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهي ، إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحقن دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين .
فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصوب ، وأخذ الضرائب ، والظلم سواء كان السلطان ولاه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين ، وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ، وإن كان آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود على المراصد لأخذ أموال [ ص: 294 ] الناس يوجب إباحة دمائهم إذ كانوا بمنزلة قطاع الطريق ، ومن قصد إنسانا لأخذ ماله ، فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله .
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : وفي خبر آخر : من طلب ماله فقاتل فقتل فهو شهيد فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصبا وهو ممن ينتحل الإسلام فالذمي إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين : من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ؛
أحدهما : ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله ، والآخر : قصده المسلم بأخذ ماله ظلما .