باب قال الله تعالى : وقت وجوب الجزية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ فأوجب قتالهم ، وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم ؛ لأن { حتى } غاية ، هذا حقيقة اللفظ ، والمفهوم من ظاهره ، ألا ترى أن قوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن قد حظر إباحة قربهن إلا بعد وجود طهرهن .
وكذلك المفهوم من قول القائل : { لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار } منع الإعطاء إلا بعد دخوله ، فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية ، وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة ، وكذلك كان يقول ؛ وذكر أبو الحسن الكرخي عن ابن سماعة قال : { لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدخل السنة ، ويمضي شهران منها بعض ما عليه بشهرين ، ونحو ذلك يعامل في الجزية ، بمنزلة الضريبة كلما كان يمضي شهران أو نحو ذلك أخذت منه } . أبي يوسف
قال : يعني بالضريبة الأجرة في الإجارات ؛ قال أبو بكر : { ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ، ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتم السنة ، ولكن يعامل ذلك في سنته } . قال أبو يوسف : ذكره للشهرين إنما هو توفية ، وهي واجبة بإقرارنا إياه على الذمة ، لما تضمنه ظاهر الآية . وذكر أبو بكر عن ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال في الذمي : { يؤخذ منه خراج رأسه في سنته ما دام فيها ، فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه } . وهذا يدل من قول أبي حنيفة على أنه رآها واجبة بعقد الذمة لهم ، وأن تأخيرنا بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة . أبي حنيفة
ألا ترى أنه قال : { فإذا انقضت السنة لم تؤخذ منه } ؟ لأن دخول السنة الثانية يوجب جزية أخرى ، فإذا اجتمعتا سقطت إحداهما . وعن أبي يوسف : { اجتماعهما لا يسقط إحداهما } وجه قول ومحمد أن الجزية واجبة على وجه العقوبة لإقامتهم على الكفر مع [ ص: 295 ] كونهم من أهل القتال ، وحق الأخذ فيها إلى الإمام ، فأشبهت الحدود ، إذ كانت مستحقة في الأصل على وجه العقوبة ، وحق الأخذ إلى الإمام ، فلما كان اجتماع الحدود من جنس ، واحد يوجب الاقتصار على واحد منهما مثل أن أبي حنيفة فلا يجب إلا حد واحد بجميع الأفعال ، كذلك حكم الجزية إذ كانت مستحقة على وجه العقوبة بل هي أخف أمرا ، وأضعف حالا من الحدود ؛ لأنه لا خلاف بين أصحابنا أن إسلامه يسقطها ، ولا تسقط الحدود بالإسلام . يزني مرارا أو يسرق مرارا ثم يرفع إلى الإمام
فإن قيل : لما كان ذلك دينا ، وحقا في مال المسلمين لم يسقطه اجتماعه ، كالديون وخراج الأرضين . قيل له : خراج الأرضين ليس بصغار ولا عقوبة ، والدليل عليه أنه يؤخذ من المسلمين ، والجزية لا تؤخذ من مسلم . وقد روي نحو قول عن أبي حنيفة ، وروى طاوس عن ابن جريج سليمان الأحول عن قال : إذا تداركت صدقات فلا تؤخذ الأولى كالجزية . طاوس
وقد اختلف الفقهاء في فقال أصحابنا : { لا يؤخذ } ، وهو قول الذمي إذا أسلم ، وقد وجبت عليه جزية هل يؤخذ بها ؟ مالك وعبيد الله بن الحسن . وقال ابن شبرمة : { إذا أسلم في بعض السنة أخذ منه بحساب ذلك } . والدليل على أن الإسلام يسقط ما وجب من الجزية قوله تعالى : والشافعي قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فانتظمت هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة ما قلنا أحدهما : الأمر بأخذ الجزية ممن يجب قتاله لإقامته على الكفر إن لم يؤدها ، ومتى أسلم لم يجب قتاله فلا جزية عليه .
والوجه الثاني : قوله تعالى : عن يد وهم صاغرون فأمر بأخذها منهم على وجه الصغار والذلة ، وهذا المعنى معدوم بعد الإسلام إذ غير ممكن أخذها على هذا الوجه ، ومتى أخذناها على غير هذا الوجه لم تكن جزية ؛ لأن الجزية هي ما أخذ على وجه الصغار . وقد روى عن الثوري قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس فنفى صلى الله عليه وسلم أخذها من المسلم ، ولم يفرق بين ما وجب عليه في حال الكفر ، وبين ما لم يجب بعد الإسلام ، فوجب بظاهر ذلك إسقاط الجزية عنه بالإسلام . ويدل على سقوطها أن الجزية ، والجزاء واحد ، ومعناه جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال ، فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر ، إذ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة ، وبقاء التكليف ؛ ولهذا الاعتبار أسقطها أصحابنا بالموت لفوات أخذها منه على وجه الصغار بعد موته فلا يكون ما يأخذه جزية ، وعلى هذا قالوا ليس على مسلم جزية : إنها تسقط ولا يأخذها الإمام منه ؛ لأن سبيل أخذها ، وموضوعها في الأصل سبيل العبادات يسقطها الموت ، وقالوا فيمن وجبت [ ص: 296 ] عليه زكاة ماله ، ومواشيه فمات إنها تسقط ؛ لأن موضوعها عندهم موضوع الصلة إذ ليست بدلا عن شيء ، ومعنى الصلة لا يتأتى بعد الموت ، فأسقطوها لهذه العلة . فيمن وجبت عليه نفقة امرأته بفرض القاضي فمات أو ماتت
فإن قيل : الحدود واجبة على وجه العقوبة ، والتوبة لا تسقطها ، وكذلك لم يكن إسلامه ، وتوبته مسقطين لحده ، وإن كان وجوب الحد في الأصل على وجه العقوبة ، والتائب لا يستحق العقاب على فعل قد صحت منه توبته . قيل له : أما الحد الذي كان واجبا على وجه العقوبة فقد سقط بالتوبة ، وما نوجبه بعدها ليس هو الحد المستحق على وجه العقوبة بل هو حد واجب على وجه المحنة بدلالة قامت لنا على وجوبه غير الدلالة الموجبة للحد الأول على وجه العقوبة ، فإن قامت دلالة على وجوب أخذ المال منه بعد إسلامه لا على وجه الجزية والعقوبة لم نأب إيجابه إلا أنه لا يكون جزية ؛ لأن اسم الجزية يتضمن كونها عقوبة ، وأنت فإنما تزعم أنه تؤخذ منه الجزية بعد إسلامه ، فإن اعترفت بأن المأخوذ منه غير جزية ، وأن الجزية التي كانت واجبة قد سقطت ، وإنما يجب مال آخر غير الجزية فإنما أنت رجل سمتنا إيجاب مال على مسلم من غير سبب يقتضي إيجابه ، وهذا لا نسلم لك إلا بدلالة . وقد روى لو أن ذميا أسلم ، وقد زنى أو سرق في حال كفره المسعودي عن محمد بن عبد الله الثقفي : أن دهقانا أسلم فقام إلى رضي الله عنه فقال له علي : أما أنت فلا جزية عليك ، وأما أرضك فلنا ، وفي لفظ آخر : إن تحولت عنها فنحن أحق بها . علي
وروى عن معمر أيوب عن محمد قال أسلم رجل فأخذ بالخراج ، وقيل له : إنك متعوذ بالإسلام ، فقال : إن في الإسلام لمعاذا إن فعلت ، فقال أجل والله إن في الإسلام معاذا إن فعل فرفع عنه الجزية . وروى عمر عن حماد بن سلمة حميد قال : كتب : من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا ، واختتن فلا تأخذوا منه الجزية . فلم يفرق هؤلاء عمر بن عبد العزيز السلف بين الجزية الواجبة قبل الإسلام ، وبين حاله بعد الإسلام في نفيها عن كل مسلم . وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ، ويذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته ، وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ، ونقض الإسلام عروة عروة إلى أن ولي فكتب إلى عامله عمر بن عبد العزيز بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمن : أما بعد فإن الله [ ص: 297 ] بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ، ولم يبعثه جابيا ، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فلما ولي هشام بن عبد الملك أعادها على المسلمين ، وكان أحد الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبد الملك بن مروان والحجاج لعنهما الله أخذهم الجزية من المسلمين ، ثم صار ذلك أيضا أحد أسباب زوال دولتهم ، وسلب نعمتهم . وروى قال : حدثنا عبد الله بن صالح حرملة بن عمران عن قال : { أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال : قتلهم يزيد بن أبي حبيب ، وإحراقهم عثمان الكعبة ، وأخذهم الجزية من المسلمين } .
وأما قولهم : { إن الجزية بمنزلة ضريبة العبد } فليس ببدع ، هذا من جهلهم ، إذ قد جهلوا من أمور الإسلام ما هو أعظم منه ؛ وذلك لأن أهل الذمة ليسوا عبيدا ، ولو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بإسلامهم لأن إسلام العبد لا يزيل رقه ، وإنما الجزية عقوبة عوقبوا بها لإقامتهم على الكفر ، فمتى أسلموا لم يجز أن يعاقبوا بأخذها منهم ، ألا ترى أن العبد النصراني لا تؤخذ منه الجزية ؟ فلو كان أهل الذمة عبيدا لما أخذ منهم الجزية .