وأما الذين يقولون ذلك ويفعلونه، من غير اتفاق ولا مواطأة. الإقرار بعلو الله [تعالى] ورفع الأيدي إليه، فهو مما اتفقت عليه الأمم،
وحينئذ فالجمع الكثير: إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات، وإما أن لا يجوز، فإن لم يجز ذلك عليهم، ثبت أن هذه المقدمة بديهية، لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ، وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية، فإن الجمع الكثير أنكروها، وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية، بقي أحد المتناظرين يقول: إن مقدمته معلومة له بالبديهة، والآخر لا يمكنه إبطال قوله، فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله، وهو المطلوب.
فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية، ولا سمعيات شرعية، [ ص: 14 ] وإنما يدعون نظريات عقلية. والمثبتون يقولون: معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية، ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية.
وأيضا فيقال: إذا قال المنازعون المثبتون: إن قولنا معلوم بالبديهة، لم يمكن أن يناظر بقضية نظرية، لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات، كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة، ولا يقبل مجرد قوله على منازعه، بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة، التي لم تتغير فطرتها بالاعتقادات الموروثة والأهواء.
ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس، الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى.
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت الفطرة، لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال، وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات.
قالوا: ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه، مثل أن يسلم للعقل مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة، فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل.