ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق، فيكون عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود، وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك، فلم يثبتوا كون الرب تعالى معبودا مألوها يحب لذاته، ويكون كمال النفس أنها تحبه، فيكون كمالها في معرفته ومحبته، بل جعلوا الكمال في مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو في مجرد معرفته، عند من يقرب إلى الإسلام منهم.
فهذا أحد نوعي ضلالهم. والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم، فما عندهم ليس بعلم، بل كثير منه جهل.
[ ص: 58 ] والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة، فضلا عن حصول السعادة الكبرى، فهم أبعد عن الكمال البشري، وعن النجاة في الآخرة والسعادة، من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك، وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى، إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علما وعملا.
وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا بكتاب معين: لا توراة، ولا إنجيل، ولا قرآن، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى، بل ولا فيها إثبات رب معين، وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كلية، ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه، ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك، بل ليس عندهم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد، فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات، فكيف يقدرها؟ ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك.
ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب، فتارة يحتاجون أن يقروا بما يوجب محبته وموالاته، مع الإقرار به سبحانه وبعلوه على خلقه، وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا. وهؤلاء لما كان قولهم مخالفا للفطرة التي فطر الله عليها عباده: من الإقرار به ومن محبته. كان ما ذكروه من كمال النفس منافيا لهذا ولهذا.