وأيضا فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل [ ص: 94 ] موجودين لا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له، كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه، وأن كل موجود فلا بد أن يكون قائما بنفسه أو بغيره.
واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية. فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات، وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات.
وقولك: "فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم".
يقال لك: ما الوهم الناكص؟ أهو الذي سميته وهما؟ فذاك إنما يتصور معاني جزئية، فليس له في الكليات حكم: لا بقبول ولا رد، فلا يقال فيه: لا يقبل ولا ينكص، كما لا يقال في القضايا الكلية: إن الحس يقبلها ولا يردها، كما لا يقال: إن البصر يميز بين الأصوات، والسمع يميز بين الألوان.
وإن قلت: إن العقل يثبت موجودا معينا لا يمكن الإشارة إليه، والوهم لا يتصور معينا لا يشار إليه.
[ ص: 95 ] فيقال لك: العقل إنما يثبت أمورا كلية مطلقة، لا يثبت شيئا معينا إلا بواسطة غيره، كالحس وتوابع الحس، ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية، وإذا أردنا أن ندخل شيئا من المعينات تحت القضايا الكلية، فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية.
فإذا علمنا أن كل شيء: فإما قائم بنفسه وإما بغيره، وأن كل موجود: فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه، وأن كل موجود: فإما قديم وإما محدث، وأن كل موجود أو كل ممكن فهو: إما جوهر وإما عرض، وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث، أو جوهر أو عرض، أو واجب أو ممكن، أو نحو ذلك، فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية، فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء، وتصور القضية الكلية شيء آخر.
فليتدبر الفاضل هذا، ليتبين له أن من لم يثبت موجودا يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان، كما يثبتون العدد المطلق، والمقدار المطلق، والحقائق المطلقة، والوجود المطلق، وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان.