"وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون". ابن كلاب: قال
قال: "فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه، وانفراد [ ص: 120 ] العرش به. قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره، وأنه عالم بها، فلا. وإن كنتم تذهبون إلى خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش، فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت".
وقال أيضا "يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا نعم. قيل ما تعنون بقولكم: إنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة، قيل لهم: ليس عن هذا سألناكم. وإن قالوا: المسألة خطأ. قيل: فليس هو فوق. فإن قالوا: نعم، ليس هو فوق. قيل لهم: وليس هو تحت. فإن قالوا: ولا تحت، أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم، وإن قالوا: هو فوق وهو تحت. قيل لهم: فوق تحت، وتحت فوق". أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب:
وقال أيضا: "يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال، فلا بد من نعم. قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم؟ فإذا قالوا: نعم، قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من هذه الجهة. وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما، قيل لهم: [ ص: 121 ] فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون: عدم، كما تقولون للإنسان: عدم، إذا وصفتموه بصفة العدم؟ وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودا له، فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما، والعجز قوة".
وقد ذكر هذا الكلام وأشباهه، ذكره عنه أبو بكر بن فورك في الكتاب الذي أفرده لمقالاته، وقال فيه: إنه أحب من سماه من أعيان أهل عصره: "أن أجمع له متفرق مقالات شيخ أهل الدين، وإمام المحققين، المنتصر للحق وأهله، المبين بحجج الله، الذاب عن دين الله، لما من به الله تعالى من معالم طرق دينه للحق، وصراطه المستقيم، السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع، الموفق لاتباع الحق، والمؤيد بنصرة الهدى والرشد" وأثنى عليه ثناء عظيما. أبي محمد بن كلاب،
قال: "وكان ذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري".
قال: "ولما كان الشيخ الأول، والإمام السابق، أبو محمد عبد الله بن سعيد، الممهد لهذه القواعد، المؤسس لهذه الأصول، والفاصل بحسن ثنائه بين حجج الحق وشبه الباطل، بالتنبيه على طرق الكلام فيه، والدال على موضع الوصل والفصل، والجمع والفرق، الفاتق لرتق الأباطيل، والكاشف عن لبس ما زخرفوا وموهوا" وذكر كلاما طويلا في الثناء عليه.
[ ص: 122 ] والمقصود أن إمام ابن كلاب وأصحابه، ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله، يبين أن من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فقوله فاسد، خارج عن طريق النظر والخبر، وأنه قد ورد خبر الله نصا، ولو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول أكثر منه، وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وأنهم قالوا: هذا هو التوحيد الخالص، وهو النفي الخالص، فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص. الأشعري
وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء، الذين يتكلمون بصريح العقل، بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد.
ولذلك قال: "إذا قالوا: ليس هو فوق وليس هو تحت، فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم".
وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة، من متأخري الأشعرية، ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية، وغيرهم من طوائف الفقهاء، الذين يقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق.
وذكر حجة ثالثة فقال: "أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة، التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات، فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات".
قال: "فيقال لهم: إذا قلنا: الإنسان -يعني: وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها- لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال باعترافهم".