الرحمن على العرش استوى [سورة طه: 5]، إنما المعنى: استولى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها". قال في "الرد على الزنادقة والجهمية": "زعمت الجهمية في قوله تعالى:
قال: "فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه. فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك فهو كافر، يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض.
[ ص: 116 ] قال الله عز وجل: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [سورة هود: 7] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض.
ثم قال: خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [سورة الفرقان: 59].
وقوله: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم [سورة غافر: 7].
وقوله: استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات [سورة البقرة: 29].
وقوله: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [سورة فصلت: 11].
فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى، فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عمران بن حصين اليمن قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان.
[ ص: 117 ] قال: كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء. اقبلوا البشرى يا بني تميم. قد بشرتنا فأعطنا. قال: اقبلوا البشرى يا أهل
وروي عن أبي رزين - وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته_ أنه قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش على الماء".
قال: "فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى. فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا.
قال: فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه: كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب [ ص: 118 ] على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؛ لأنه لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله، ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول: إن الله محدود، وقد حوته الأماكن، إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، فالبيت قد حوى فلانا، والجب قد حوى الماء، ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك، وقيل لهم: ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلهن، وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم، ويلزمك أيضا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن، وعندك أن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! فلما شنعت مقالته، قال: أقول: إن الله في كل مكان، لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجا عن الشيء، ولا مباينا للشيء، قال: فيقال له: أصل قولك: القياس والمعقول، فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا، لأنه لو كان شيئا داخلا، فمن القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو [ ص: 119 ] خارجا منه، فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجا من الشيء، فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له، وهو دينك، وأصل مقالتك: التعطيل".
فهذا كلام عبد العزيز يبين أن القياس المعقول يوجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه، فإنه لا يكون شيئا، وأن ذلك صفة توجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا، وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له.
والقياس هو الأقيسة العقلية، والمعقول هو العلوم الضرورية، وعبد العزيز هذا قبل وجود الحنبلية والكرامية كما تقدم.
وقال إمام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأمثالهم، وممن ذكر ذلك عنه والأشعري، فيما جمعه من كلامه، فإنه جمع من كلامه، وجمع كلام أبو بكر بن فورك أيضا، وبين اتفاقهما في عامة أصولهما. الأشعري