(فصل)
والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنيا على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي -وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم، ليس فيها مقدمات متفق عليها تبنى عليها النتيجة المذكورة- علم أن ما اشتركوا فيه من النتيجة كان من لوازم ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها، لا القضايا الضرورية. النفاة للعلو والمباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبنون عليها مطلوبهم، بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر،
وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقا على خلاف المعلوم بالضرورة، كما لو كان لرجل مال كثير، وله غرماء كثيرون، فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه، حتى استوفي المال كله، وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر، كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذلك الرجل كله، ولا يقال أن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب، فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد، بل كل طائفة [ ص: 192 ] أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى، ولزم من مجموع الأخبار أخذ المال، فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال، بل الكذب ممكن عليهم كلهم.
كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم بضرورات العقول، ويمكن أن يقع منهم على هذا الوجه، وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول هؤلاء: هو ساحر، وهؤلاء: هو كاهن، وهؤلاء: هو مجنون، فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون.
وأيضا فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب، الذين يعلمون أنه كذب، يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم، وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ، فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية، فقد يعبر عنها بعبارات فيها إجمال واشتباه، يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة، وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها، وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره، فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة، كان هذا جائزا باتفاق العقلاء، فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمدا، فكيف خطأ؟!
فإذا تلقى تلك الأقوال، عن أولئك السابقين إليها، عدد آخرون، واشتهرت بين من اتبعهم فيها، صاروا متواطئين على قبولها، لما فيها من الاشتباه والإجمال، مع تضمنها مخالفة الضرورة، وإن كان كثير من القائلين بها -أو أكثرهم- لا يعلمون ذلك، وهذا هو السبب في اتفاق [ ص: 193 ] طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل، كمقالات النصارى والرافضة والجهمية.