وروى ابن أبي حاتم، هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه. عن
قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد.
وروى أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم، ويقول: لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى، بائن من خلقه.
وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله.
وجميع الطوائف تنكر هذا، إلا من تلقى ذلك عن الجهمية، كالمعتزلة ونحوهم من الفلاسفة، فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم، وأنهم إذا قيل لهم: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب إليه شيء، ولا يقرب هو من شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو، فإن فطرهم تنكر ذلك، وإذا أنكروا هذا في هذه القضية [ ص: 266 ] المعينة التي هي المطلوب، فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ. وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء، بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات، وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات.
وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم، وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون، وأما سائر أئمة المسلمين، مثل والجهم بن صفوان، مالك والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم، فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات. وأحمد بن حنبل،
وكذلك شيوخ أهل الدين، مثل الفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وأحمد بن أبي الحواري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمرو بن عثمان المكي، والحارث المحاسبي، ومحمد بن حنيف الشيرازي، وغير هؤلاء.
وكتب فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات، فكيف يقال: ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية؟ أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات، ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة.
ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان، فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه؟ أحمد بن حنبل
[ ص: 267 ] وأيضا فعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وعامة قدماء الأشعرية يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ويردون على النفاة غاية الرد، وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية. وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم، ومن وافقهم من الفلاسفة. وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات، كما نقله عنهم، وهو من أعظم الناس انتصارا لهم، وسلوكا لطريقتهم، لا سيما ابن رشد الحفيد لأرسطو وأتباعه، مع أنه يميل إلى القول بقدم العالم أيضا.