الرازي: "واحتج الخصم أيضا بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهة إنما كان لكونه قائما بالنفس" يعني: وهذا ثابت لكل قائم بنفسه "وإذا كان في جهة كان في جهة فوق، لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب، ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء" قال: "والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة، فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى". قال
والاعتراض على ذلك أن يقال: إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما [ ص: 345 ] يمتاز به جسم عن جسم، كما يقال: اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكا، واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء، واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء، فهذا باطل لا يقوله عاقل، فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة، والحكم العام المشترك بينها، لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض، فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها، كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات.
وإذا قيل: إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام، كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية، فهذا صحيح، لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يختص به كل حيوان.
وإذا قيل: إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين، كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا، وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد، وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض، فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب، لكنه نظيره، مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب، فليس الملك الثابت بالإرث مساويا للملك الثابت بالبيع من كل وجه، بل له خصائص يمتاز بها عنه، وكذلك حل الدم الثابت بالردة، ليس مساويا لحل الدم الثابت بالقتل، بل بينهما فروق معروفة.
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه، وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد.
وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك، فيجب أن يضاف إلى قدر [ ص: 346 ] مشترك، والعقل يجزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم، بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزا ذا جهة، فصار هذا من لوازم القدر المشترك، فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات.
وقوله: "لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى".
إنما تكون حجة لو قيل: العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى، وليس هذا هو المدعى، بل المدعى أن هذا من لوازم القدر المشترك، سواء قيل: إنه معلول له، أو لازم غير معلول له. وحينئذ فلا يحتاج أن نقول: ثبت لصفة أخرى، بل يمكن أن يكون لازما لنفس الذات، لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة، فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها، بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام.
فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزا وذا جهة لازم له، لعموم كونه جسما، لا لخصوص المعينات، بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم.
وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام، فلفظ "الجسم" مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه، فتسمية مثل هذا جسما مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية.
وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر [ ص: 347 ] المفردة، أو من المادة والصورة. وحينئذ فالناس هنا طوائف: منهم من يقول لك: هو فوق العالم وليس بجسم، ومنهم من يقول لك: هو فوق العالم وهو جسم، بمعنى أنه يشار إليه، لا بمعنى أنه مركب. ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركبا، ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات، بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية، فيقولون لك: القدر المشترك بينهما هو القيام بالنفس، فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة، فهذه أمور متلازمة.
ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم: لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز، كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة، سواء سمي عرضا أو لم يسم، فإثبات المثبت قائما بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء، كإثباته قائما بغيره ليس صفة له.
يوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولي الناس، وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار، مع القيام بالنفس، فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها، فكذلك هما من لوازم القيام بالنفس العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها. وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة، كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة، فهنا المنازعون لك صنفان: منهم من يقول: هو جسم مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، وهؤلاء -وإن كان قولهم باطلا- فليس لك حجة تبطل بها قولهم، بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم، فإن كل قول يكون أبعد عن الحق [ ص: 348 ] تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه.