المسألة الخامسة :
كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة ، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة :
فإن عبر أحدهم بقوله : نزلت في كذا ، والآخر : نزلت في كذا ، وذكر أمرا آخر ، فقد [ ص: 128 ] تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول ، فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما ، كما سيأتي تحقيقه في النوع الثامن والسبعين .
وإن عبر واحد بقوله : نزلت في كذا ، وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد وذاك استنباط . ومثاله ما أخرجه عن البخاري ، ، قال : أنزلت ابن عمر نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] في إتيان النساء في أدبارهن . وتقدم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه ، فالمعتمد حديث جابر ; لأنه نقل ، وقول استنباط منه وقد وهمه فيه ابن عمر ، وذكر مثل حديث ابن عباس جابر ، كما أخرجه أبو داود والحاكم .
وإن ذكر واحد سببا وآخر سببا غيره ، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح المعتمد ، مثاله : ما أخرجه الشيخان وغيرهما ، عن جندب : محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 1 - 3 ] . اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت : يا
وأخرج الطبراني عن وابن أبي شيبة ، عن أمه ، عن أمها - وكانت خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفص بن ميسرة ، أن جروا دخل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي : لو هيأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فأخرجت الجرو فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فأنزل الله : [ ص: 129 ] ( والضحى ) إلى قوله ( فترضى ) .
وقال ابن حجر في شرح : قصة إبطاء البخاري جبريل بسبب الجرو مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يعرف ، فالمعتمد ما في الصحيح .
ومن أمثلته - أيضا : - ما أخرجه ابن جرير ، من طريق وابن أبي حاتم علي بن أبي طلحة ، عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى ابن عباس المدينة ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبله بضعة عشر شهرا - وكان يحب قبلة إبراهيم - فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ! فأنزل الله : قل لله المشرق والمغرب [ البقرة : 115 ] وقال : فأينما تولوا فثم وجه الله . [ البقرة : 115 ]
وأخرج الحاكم وغيره ، عن ، قال : نزلت ابن عمر فأينما تولوا فثم وجه الله أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع .
وأخرج الترمذي - وضعفه - من حديث قال : كنا في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ؟ فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت . عامر بن ربيعة
[ ص: 130 ] وأخرج نحوه من حديث الدارقطني جابر ، بسند ضعيف أيضا .
وأخرج : عن ابن جرير مجاهد ، قال : لما نزلت ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين ؟ فنزلت . مرسل .
وأخرج عن قتادة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فنزلت . معضل غريب جدا .
فهذه خمسة أسباب مختلفة ، وأضعفها الأخير لإعضاله ، ثم ما قبله لإرساله ، ثم ما قبله لضعف رواته ، والثاني صحيح ، لكنه قال : قد أنزلت في كذا ولم يصرح بالسبب ، والأول صحيح الإسناد ، وصرح فيه بذكر السبب ، فهو المعتمد .
ومن أمثلته – أيضا - : ما أخرجه ابن مردويه ، من طريق وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق ، محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة - أو سعيد - عن قال : ابن عباس خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، تعال فتمسح بآلهتنا ، وندخل معك في دينك وكان يحب إسلام قومه . فرق لهم ، فأنزل الله وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآيات [ الإسراء : 73 - 77 ] .
وأخرج ابن مردويه من طريق عن العوفي ، : أن ابن عباس ثقيفا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى لها أحرزناه ، ثم أسلمنا . فهم أن يؤجلهم فنزلت .
هذا يقتضي نزولها بالمدينة . وإسناده ضعيف ، والأول يقتضي نزولها بمكة وإسناده حسن ، وله شاهد عند أبي الشيخ ، عن ، يرتقي به إلى درجة الصحيح ، فهو المعتمد . سعيد بن جبير
الحال الرابع : أن يستوي الإسنادان في الصحة ، فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة ، أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات . مثاله : ما أخرجه البخاري ، قال : [ ص: 131 ] كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود بالمدينة ، وهو يتوكأ على عسيب ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : لو سألتموه ! فقالوا : حدثنا عن الروح ، فقام ساعة ورفع رأسه ، فعرفت أنه يوحى إليه ، حتى صعد الوحي ، ثم قال قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء : 85 ] . عن
وأخرج الترمذي وصححه ، عن . قال : قالت ابن عباس قريش لليهود : أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : اسألوه عن الروح ، فسألوه ، فأنزل الله ويسألونك عن الروح .
الآية .
فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة . والأول خلافه ، وقد رجح بأن ما رواه أصح من غيره ، وبأن البخاري كان حاضر القصة . ابن مسعود
الحال الخامس : أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة ، بألا تكون معلومة التباعد ، كما في الآيات السابقة فيحمل على ذلك . ومثاله : ما أخرجه من طريق البخاري عكرمة ، عن : أن ابن عباس هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سمحاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ; ينطلق يلتمس البينة ! فأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم . . . . حتى بلغ : إن كان من الصادقين [ النور : 6 - 9 ] .
وأخرج الشيخان عن قال : سهل بن سعد عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : اسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، فقتله ، أيقتل به ، أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاب السائل ، فأخبر عاصم عويمرا ، فقال : والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه ، فأتاه ، فقال : أنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن . . . الحديث . جاء
[ ص: 132 ] جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجيء عويمر أيضا ، فنزلت في شأنهما معا . وإلى هذا جنح النووي ، وسبقه الخطيب فقال : لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد .
وأخرج البزار : حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : شرا قال : فأنت يا عمر ؟ قال : كنت أقول : لعن الله الأعجز ، فإنه لخبيث . فنزلت . عن
قال ابن حجر : لا مانع من . تعدد الأسباب
الحال السادس : أن لا يمكن ذلك : فيحمل على تعدد النزول وتكرره . مثاله : ما أخرجه الشيخان ، عن المسيب ، قال : أبا طالب الوفاة ، دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب .
فلم يزالا يكلمانه حتى قال : هو على ملة عبد المطلب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ، فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ التوبة : 113 ] . لما حضر
وأخرج الترمذي – وحسنه - عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ! فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .
[ ص: 133 ] وأخرج الحاكم وغيره ، عن قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما إلى المقابر ، فجلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ، ثم بكى فقال : إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، فأنزل علي ابن مسعود ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول .
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البيهقي ، والبزار ، عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على أبي هريرة حمزة حين استشهد ، وقد مثل به ، فقال : لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بخواتيم سورة النحل : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ النحل : 126 ] إلى آخر السورة .
وأخرج الترمذي ، والحاكم ، عن قال : لما كان يوم أبي بن كعب أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة ، فمثلوا بهم فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم . فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وإن عاقبتم الآية .
[ ص: 134 ] فظاهره تأخير نزولها إلى الفتح ، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد .
قال ابن الحصار : ويجمع أنها نزلت أولا بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية ، ثم ثانيا بأحد ، ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده . وجعل ابن كثير من هذا القسم آية الروح .
تنبيه : قد يكون في إحدى القصتين : ( فتلا ) فيهم الراوي ، فيقول : ( فنزل ) .
مثاله : ما أخرجه الترمذي - وصححه - عن ، قال : ابن عباس أبا القاسم ، إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية [ الأنعام : 91 ] . والحديث في الصحيح بلفظ : فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . . وهو الصواب ; فإن الآية مكية . مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف تقول يا
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البخاري ، عن أنس قال : سمع بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن عبد الله بن سلام جبريل آنفا قال : جبريل ؟ قال : " نعم " قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقرأ هذه الآية من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك [ البقرة : 97 ] .
قال ابن حجر في شرح : ظاهر السياق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية ردا على قول البخاري اليهود ، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ . قال : وهذا هو المعتمد ، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام .
تنبيه : عكس ما تقدم : أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة ، ولا إشكال في [ ص: 135 ] ذلك فقد ينزل في الوقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى .
مثاله : ما أخرجه الترمذي والحاكم : عن ، أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ ! فأنزل الله : أم سلمة فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع [ آل عمران : 195 ] إلى آخر الآية .
وأخرج الحاكم عنها – أيضا - قالت : قلت : يا رسول الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء ؟ ! فأنزلت إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] وأنزلت أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .
وأخرج – أيضا - عنها أنها قالت : تغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث ؟ ! فأنزل الله : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وأنزل : إن المسلمين والمسلمات .
ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه ، من حديث البخاري : زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه : لا يستوي القاعدون من المؤمنين إلى والمجاهدون في سبيل الله [ النساء : 95 ] فجاء ، وقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى فأنزل الله : ابن أم مكتوم غير أولي الضرر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن - أيضا - قال : كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لواضع القلم على أذني ، إذا أمر بالقتال ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى ، فقال : كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزلت زيد بن ثابت ليس على الضعفاء [ التوبة : 91 ] .
ومن أمثلته : ما أخرجه عن ابن جرير ، ، قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل حجرة ، فقال : ابن عباس إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فطلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل ، فجاء أصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا [ التوبة : 74 ] الآية .
[ ص: 136 ] وأخرجه الحاكم وأحمد بهذا اللفظ ، وآخره : فأنزل الله يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم الآية [ المجادلة : 18 ] .
تنبيه : تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة ، واشدد به يديك ، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم ، ولم أسبق إليه .