[ ص: 299 ] النوع الثلاثون .
في . الإمالة والفتح وما بينهما
أفرده بالتصنيف جماعة من القراء منهم ابن القاصح ، عمل كتابه : " قرة العين في الفتح والإمالة بين اللفظين " .
قال الداني الداني : الفتح والإمالة لغتان مشهورتان ، فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم : فالفتح لغة أهل الحجاز ، والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وأسد وقيس .
قال : والأصل فيها حديث حذيفة مرفوعا : اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم وأصوات أهل الفسق وأهل الكتابين .
قال : فالإمالة لا شك من الأحرف السبعة ، ومن لحون العرب وأصواتها .
وقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، إبراهيم ، قال : كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء .
قال : يعني بالألف والياء التفخيم والإمالة .
[ ص: 300 ] وأخرج في " تاريخ القراء " من طريق أبي عاصم الضرير الكوفي ، عن محمد بن عبيد ، عن عاصم ، عن ، قال : قرأ رجل على زر بن حبيش طه ولم يكسر ، فقال عبد الله : ( طه ) وكسر الطاء والهاء ، فقال الرجل : طه ولم يكسر . عبد الله بن مسعود
فقال عبد الله : ( طه ) وكسر الطاء والهاء .
فقال الرجل : طه ولم يكسر .
فقال عبد الله : ( طه ) وكسر ثم قال : هكذا علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن الجزري : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ورجاله ثقات إلا محمد بن عبيد الله ، وهو العزرمي فإنه ضعيف عند أهل الحديث ، وكان رجلا صالحا ، لكن ذهبت كتبه فكان يحدث من حفظه ! فأتي عليه من ذلك .
قلت : وحديثه هذا أخرجه ابن مردويه في تفسيره ، وزاد في آخره : وكذا نزل بها جبريل .
وفي " جمال القراء " ، عن صفوان بن عسال : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ : يايحيى [ مريم : 12 ] .
فقيل : له : يا رسول الله تميل وليس هي لغة قريش ؟
فقال : هي لغة الأخوال بني سعد .
وأخرج ابن أشتة ، عن أبي حاتم قال : احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات .
: أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة ، وبالألف نحو : الياء كثيرا ، وهو المحض ويقال له أيضا : الإضجاع والبطح والكسر قليلا ، وهو بين اللفظين ويقال له أيضا : التقليل والتلطيف وبين بين . الإمالة
فهي قسمان : شديدة ومتوسطة ، وكلاهما جائز في القراءة ، والشديدة يجتنب معها القلب الخالص ، والإشباع المبالغ فيه ، والمتوسطة بين الفتح المتوسط والإمالة الشديدة .
قال الداني الداني : وعلماؤنا مختلفون أيهما أوجه وأولى ؟ وأنا أختار الإمالة الوسطى التي [ ص: 301 ] هي بين بين ; لأن الغرض من الإمالة حاصل بها ، وهو الإعلام بأن أصل أصل الألف الياء ، والتنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع ، أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء .
وأما الفتح : فهو فتح القارئ فاه بلفظ الحرف ، ويقال له : التفخيم ، وهو شديد ومتوسط .
فالشديد : هو نهاية فتح الشخص فاه بذلك الحرف ، ولا يجوز في القرآن ، بل هو معدوم في لغة العرب .
والمتوسط : ما بين الفتح الشديد والإمالة المتوسطةالمتوسطة . قال الداني الداني : وهذا هو الذي يستعمله أصحاب الفتح من القراء .
واختلفوا : هل الإمالة فرع عن الفتح ، أو كل منهما أصل برأسه ؟
ووجه الأول : أن الإمالة لا تكون إلا لسبب ، فإن فقد لزم الفتح ، وإن وجد جاز الفتح والإمالة ، فما من كلمة تمال إلا في العرب من يفتحها ، فدل اطراد الفتح على أصالته وفرعيتها .
والكلام في الإمالة من خمسة أوجه : أسبابها ، ووجوهها ، وفائدتها ، ومن يميل ، وما يمال .
وأما أسبابها : فذكرها القراء عشرة ، قال ابن الجزري : وهي ترجع إلى شيئين : أحدهما الكسرة ، والثاني الياء ، وكل منهما يكون متقدما على محل الإمالة من الكلمة ومتأخرا عنه ويكون أيضا مقدرا في محل الإمالة .
وقد تكون الكسرة والياء غير موجودتين في اللفظ ولا مقدرتين في محل الإمالة ، ولكنهما مما يعرض في بعض تصاريف الكلمة .
وقد تمال الألف أو الفتحة لأجل ألف أخرى أو فتحة أخرى ممالة ، وتسمى هذه إمالة لأجل إمالة ، وقد تمال الألف تشبيها بالألف الممالة .
قال ابن الجزري : وتمال أيضا بسبب كثرة الاستعمال ، وللفرق بين الاسم والحرف ، فتبلغ الأسباب اثني عشر سببا .
فأما الإمالة لأجل الكسرة السابقة : فشرطها أن يكون الفاصل بينها وبين الألف حرفا واحدا ، نحو : كتاب وحساب وهذا الفاصل إنما حصل باعتبار الألف .
[ ص: 302 ] وأما الفتحة الممالة فلا فاصل بينها وبين الكسرة أو حرفين أولهما ساكن نحو : إنسان أو مفتوحين والثاني هاء لخفائها .
وأما الياء السابقة فإما ملاصقة للألف كالحياة ، والأيامى ، أو مفصولة بحرفين أحدهما الهاء ، كيدها .
وأما الكسرة المتأخرة : فسواء كانت لازمة نحو عابد ، أم عارضة نحو : ( من الناس ) و ( في النار ) . وأما الياء المتأخرة فنحو : مبايع . وأما الكسرة المقدرة فنحو : خاف إذ الأصل ( خوف ) .
وأما الياء المقدرة : فنحو : يخشى ، والهدى ، وأبى ، والثرى فإن الألف في كل ذلك منقلبة عن ياء ، تحركت وانفتح ما قبلها .
وأما الكسرة العارضة في بعض أحوال الكلمة : فنحو : طاب ، وجاء ، وشاء ، وزاد ; لأن الفاء تكسر من ذلك مع ضمير الرفع المتحرك .
وأما الياء العارضة كذلك ، نحو : تلا ، وغزا ، فإن ألفهما عن واو ، وإنما أميلت لانقلابها ياء في تلي وغزي .
وأما الإمالة لأجل الإمالة ، فكإمالة الألف بعد النون من الكسائي إنا لله [ البقرة : 156 ] لإمالة الألف من لله ولم يمل وإنا إليه لعدم ذلك بعده . وجعل من ذلك إمالة : الضحى ، والقرى ، وضحاها ، وتلاها .
وأما الإمالة لأجل الشبه : فإمالة ألف التأنيث في نحو : الحسنى ، وألف موسى وعيسى لشبهها بألف الهدى .
وأما الإمالة لكثرة الاستعمال ، فكإمالة الناس في الأحوال الثلاث ، على ما رواه صاحب " المبهج " .
وأما الإمالة للفرق بين الاسم والحرف ; فكإمالة الفواتح . كما قال : إن إمالة باء وتاء في حروف المعجم ; لأنها أسماء ما يلفظ به فليست مثل ( ما ) و ( لا ) وغيرهما من الحروف . سيبويه
وأما وجوهها : فأربعة ، ترجع إلى الأسباب المذكورة . أصلها اثنان : المناسبة والإشعار . فأما المناسبة : فقسم واحد ، وهو فيما أميل لسبب موجود في اللفظ ، وفيما أميل لإمالة غيره ، فإنهم أرادوا أن يكون عمل اللسان ومجاورة النطق بالحرف الممال بسبب الإمالة من وجه واحد ، وعلى نمط واحد .
وأما الإشعار : فثلاثة أقسام : إشعار بالأصل ، وإشعار بما يعرض في الكلمة في بعض المواضع ، وإشعار بالشبه المشعر بالأصل .
[ ص: 303 ] وأما فائدتها : فسهولة اللفظ ، وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح وينحدر بالإمالة والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع ; فلهذا أمال من أمال وأما من فتح : فإنه راعى كون الفتح أمتن أو الأصل .
وأما من أمال : فكل القراء العشرة إلا ابن كثير ، فإنه لم يمل شيئا في جميع القرآن .
وأما ما يمال : فموضع استيعابه كتب القراءات ، والكتب المؤلفة في الإمالة .
ونذكر هنا ما يدخل تحت ضابط :
فحمزة والكسائي وخلف :
أمالوا كل ألف منقلبة عن ياء ، حيث وقعت في القرآن ، في اسم أو فعل : كالهدى ، والهوى ، والفتى ، والعمى ، والزنا ، وأتى ، وأبى ، وسعى ، ويخشى ، واجتبى ، واشترى ، ومثوى ، ومأوى ، وأدنى ، وأزكى .
وكل ألف تأنيث على ( فعلى ) بضم الفاء أو كسرها أو فتحها كطوبى ، وبشرى ، وقصوى ، والقربى ، والأنثى ، والدنيا ، وإحدى ، وذكرى ، وسيما ، وضيزى ، وموتى ، ومرضى ، والسلوى ، والتقوى ، وألحقوا بذلك موسى وعيسى ويحيى .
وكل ما كان على وزن ( فعالى ) بالضم أو الفتح : كسكارى ، وكسالى ، وأسارى ، ويتامى ، ونصارى ، والأيامى .
وكل ما رسم في المصاحف بالياء نحو : ( بلى ) و ( متى ) و ( يا أسفى ) و ( يا ويلتى ) و ( يا حسرتى ) و ( أنى ) للاستفهام . واستثني من ذلك : حتى ، وإلى ، وعلى ، ولدى ، وما زكى ، فلم تمل بحال .
وكذلك : أمالوا من الواوي ما كسر أوله أو ضم ، وهو ( الربا ) كيف وقع ( الضحى ) كيف جاء والقوى والعلى .
وأمالوا رءوس الآي من إحدى عشرة سورة جاءت على نسق ، وهي : طه والنجم وسأل والقيامة والنازعات وعبس والأعلى والشمس والليل والضحى والعلق ووافق على هذه السور أبو عمرو . وورش
وأمال أبو عمرو كل ما كان فيه راء بعدها ألف بأي وزن كان كذكرى وبشرى وأسرى وأراه واشترى ويرى والقرى والنصارى وأسارى وسكارى ووافق على ألفات ( فعلى ) كيف أتت .
وأمال أبو عمرو كل ألف بعدها راء متطرفة ، مجرورة نحو : الدار ، والنار ، والقهار ، والغفار ، والنهار ، والديار ، والكفار ، والإبكار ، وبقنطار ، وأبصارهم ، وأوبارها ، وأشعارها ، وحمارك ، سواء كانت الألف أصلية أم زائدة . والكسائي
[ ص: 304 ] وأمال حمزة الألف من عين الفعل الماضي من عشرة أفعال ، وهي زاد وشاء وجاء وخاب وران وخاف وزاغ وطاب وضاق وحاق ، حيث وقعت ، وكيف جاءت .
وأمال هاء التأنيث وما قبلها وقفا مطلقا بعد خمسة عشر حرفا يجمعها قولك ( فجثت زينب لذود شمس ) فالفاء كخليفة ورأفة ، والجيم كوليجة ولجة ، والثاء كثلاثة وخبيثة ، والتاء كبغتة والميتة ، والزاي كبارزة وأعزة ، والياء كخشية وشيبة ، والنون كسنة وجنة ، والباء كحبة والتوبة ، واللام كليلة وثلة ، والذال كلذة والموقوذة ، والواو كقسوة والمروة ، والدال كبلدة وعدة ، والشين كالفاحشة وعيشة ، والميم كرحمة ونعمة والسين كالخامسة وخمسة . الكسائي
وبفتح مطلقا بعد عشرة أحرف ، وهي جاع ، وحروف الاستعلاء ( قظ خص ضغط ) والأربعة الباقية وهي ( أكهر ) إن كان قبل كل منها ياء ساكنة ، أو كسرة متصلة أو منفصلة بساكن يميل ، وإلا بفتح .
وبقي أحرف فيها خلف وتفصيل ، ولا ضابط يجمعها فلتنظر من كتب الفن .
وأما : فواتح السور
فأمال الر في السور الخمسة : حمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر وبين بين . ورش
وأمال الهاء من فاتحة ( مريم ) و ( طه ) أبو عمرو والكسائي وأبو بكر .
وأمال حمزة وخلف ( طه ) دون ( مريم ) .
وأمال الياء من أول ( مريم ) من أمال ( الر ) إلا أبا عمرو على المشهور عنه ، ومن أول يس الثلاثة الأولون وأبو بكر .
وأمال هؤلاء الأربعة الطاء من طه و طسم و طس والحاء من حم في السور السبع ، ووافقهم في الحاء ابن ذكوان .
خاتمة .
كره قوم الإمالة لحديث : نزل القرآن بالتفخيم .
وأجيب عنه بأوجه :
أحدها : أنه نزل بذلك ، ثم رخص في الإمالة .
[ ص: 305 ] ثانيها : أن معناه : أنه يقرأ على قراءة الرجال ، لا يخضع الصوت فيه ككلام النساء .
ثالثها : أن معناه : أنزل بالشدة والغلظة على المشركين ، قال في " جمال القراء " : وهو بعيد في تفسير الخبر ; لأنه نزل أيضا بالرحمة والرأفة .
رابعها : أن معناه بالتعظيم والتجليل ، أي : عظموه ، وبجلوه ، فحض بذلك على تعظيم القرآن وتبجيله .
خامسها : أن المراد بالتفخيم تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر في المواضع المختلف فيها دون إسكانها لأنه أشبع لها وأفخم .
قال الداني الداني : وكذا جاء مفسرا ، عن . ثم قال : حدثنا ابن عباس ابن خاقان ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا حدثنا علي بن عبد العزيز ، القاسم سمعت يخبر ، عن الكسائي سلمان ، عن قال : قال الزهري : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم ، نحو : قوله ( الجمعة ) وأشباه ذلك من التثقيل . ابن عباس
ثم أورد حديث الحاكم ، عن مرفوعا زيد بن ثابت نزل القرآن بالتفخيم .
وقال محمد بن مقاتل أحد رواته : سمعت عمارا يقول : عذرا أو نذرا [ المرسلات : 6 ] . الصدفين [ الكهف : 96 ] يعني : بتحريك الأوسط في ذلك .
قال : ويؤيده قول أبى عبيدة : أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفا واحدا : ( عشرة ) فإنهم يجزمونه وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام ; إلا هذا الحرف ، فإنهم يقولون ( عشرة ) بالكسر .
قال الداني الداني : فهذا الوجه أولى في تفسير الخبر .