[ ص: 232 ] النوع الثالث والستون في . الآيات المشتبهات
أفرده بالتصنيف خلق : أولهم فيما أحسب ونظمه الكسائي السخاوي ، وألف في توجيهه الكرماني كتابه : " البرهان في متشابه القرآن " وأحسن منه : " درة التنزيل وغرة التأويل " لأبي عبد الله الرازي ، وأحسن من هذا " ملاك التأويل " لأبي جعفر بن الزبير ، ولم أقف عليه ، وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه " كشف المعاني عن متشابه المثاني " وفي كتابي : " أسرار التنزيل " المسمى " قطف الأزهار في كشف الأسرار " من ذلك الجم الغفير .
والقصد به بل تأتي في موضع واحد مقدما ، وفي آخر مؤخرا ، كقوله في البقرة : إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ، وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] . وفي الأعراف : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا [ الأعراف : 161 ] . وفي البقرة : وما أهل به لغير الله [ البقرة : 173 ] . وسائر القرآن : وما أهل لغير الله به [ المائدة : 3 ] .
أو في موضع بزيادة وفي آخر بدونها ، نحو : سواء عليهم أأنذرتهم في البقرة [ الآية : 6 ] ، وفي يس وسواء عليهم أأنذرتهم [ الآية : 10 ] . وفي البقرة : ويكون الدين لله [ الآية : 193 ] . وفي الأنفال كله لله [ الأنفال : 39 ] . أو في موضع معرفا ، وفي آخر منكرا أو مفردا ، وفي آخر جمعا ، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر ، أو مدغما وفي آخر مفكوكا ، وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات .
[ ص: 233 ] وهذه أمثلة منه بتوجيهها :
قوله تعالى : في البقرة هدى للمتقين [ الآية : 2 ] . وفي لقمان : هدى ورحمة للمحسنين [ الآية : 3 ] . لأنه لما ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المتقين ، ولما ذكر ثم الرحمة ناسب المحسنين .
قوله تعالى : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا [ البقرة : 35 ] . وفي الأعراف : فكلا [ الآية : 19 ] . بالفاء ، قيل : لأن السكنى في البقرة الإقامة ، وفي الأعراف اتخاذ المسكن ، فلما نسب القول إليه تعالى : وقلنا ياآدم ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى والأكل ، ولذا قال فيه : رغدا وقال : حيث شئتما لأنه أعم ، وفي الأعراف : ويا آدم فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها لأن الأكل بعد الاتخاذ ، ومن حيث لا تعطي عموم معنى حيث شئتما
قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [ البقرة : 48 ] . الآية ، وقال بعد ذلك ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ البقرة : 123 ] . ففيه تقديم العدل وتأخيره والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفع أخرى .
وذكر في حكمته : أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى ، وفي الثانية إلى النفس الثانية .
فبين في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على العدل ، وبين في الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها ، ولا تنفعها شفاعة شافع منها ، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده ، ولذلك قال في الأولى : ولا يقبل منها شفاعة وفي الثانية : ولا تنفعها شفاعة لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وإنما تنفع المشفوع له .
قوله تعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون [ البقرة : 49 ] . وفي إبراهيم ويذبحون [ إبراهيم : 6 ] . بالواو ، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم ، [ ص: 234 ] فلم يعدد عليهم المحن تكرما في الخطاب ، والثانية من كلام موسى فعددها ، وفي الأعراف يقتلون [ الأعراف : 141 ] . وهو من تنويع الألفاظ المسمى بالتفنن .
قوله تعالى : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية [ البقرة : 58 ] . الآية . وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر المنعم عليهم حيث قال يابني إسرائيل اذكروا نعمتي [ البقرة : 47 ] . إلى آخره ، فناسب نسبة القول إليه تعالى ، وناسب قوله : رغدا لأن المنعم به أتم وناسب تقديم وادخلوا الباب سجدا [ البقرة : 58 ] . وناسب خطاياكم لأنه جمع كثرة ، وناسب الواو في وسنزيد لدلالتها على الجمع بينهما ، وناسب الفاء في فكلوا لأن الأكل مترتب على الدخول ، وآية الأعراف افتتحت بما فيه توبيخهم وهو قولهم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [ الأعراف : 138 ] . ثم اتخاذهم العجل ، فناسب ذلك وإذ قيل لهم [ الأعراف : 161 ] . وناسب ترك رغدا والسكنى تجامع الأكل فقال : وكلوا وناسب تقديم ذكر مغفرة الخطايا وترك الواو في وسنزيد
ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق [ الأعراف : 159 ] . ناسب تبعيض الظالمين بقوله : الذين ظلموا منهم [ الأعراف : 162 ] . ولم يتقدم في البقرة مثله فترك ، وفي البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم ، والإرسال أشد وقعا من الإنزال ، فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة ذلك ، وختم آية البقرة ب يفسقون [ البقرة : 59 ] . ولا يلزم منه الظلم ، والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظة منها سياقه .
وكذا في البقرة فانفجرت [ البقرة : 60 ] . وفي الأعراف فانبجست [ الأعراف : 160 ] . لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء ، فناسب سياق ذكر النعم التعبير .
قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [ البقرة : 80 ] . وفي آل [ ص: 235 ] عمران : معدودات [ آل عمران : 24 ] . قال ابن جماعة : لأن قائل ذلك فرقتان من اليهود .
إحداهما قالت : إنما نعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا ، والأخرى قالت : إنما نعذب أربعين ، عدة أيام عبادة آبائهم العجل . فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة وآل عمران بالفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة .
وقال أبو عبد الله الرازي : إنه من باب التفنن ، قوله تعالى : إن هدى الله هو الهدى [ البقرة : 120 ] . وفي آل عمران إن الهدى هدى الله [ آل عمران : 73 ] . لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة ، وفي آل عمران المراد به الدين لتقدم قوله لمن تبع دينكم [ آل عمران : 73 ] . ومعناه : إن دين الله الإسلام .
قوله تعالى : رب اجعل هذا بلدا آمنا [ البقرة : 126 ] . وفي إبراهيم هذا البلد آمنا [ إبراهيم : 35 ] . لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر وإسماعيل به ، وهو واد فدعا بأن يصيره بلدا . والثاني : دعا به بعد عوده ، وسكنى جرهم به ، ومصيره بلدا فدعا بأمنه .
قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا [ البقرة : 137 ] . وفي آل عمران : قل آمنا بالله وما أنزل علينا [ آل عمران : 84 ] . أن الأولى خطاب للمسلمين ، والثانية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و ( إلى ) ينتهى بها من كل جهة ، و ( على ) لا ينتهى بها إلا من جهة واحدة وهي العلو ، والقرآن يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم منها ، وإنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة العلو خاصة ، فناسب قوله : علينا ؛ ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي صلى الله عليه وسلم بعلى ، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى .
قوله تعالى تلك حدود الله فلا تقربوها [ البقرة : 187 ] . وقال بعد ذلك : فلا تعتدوها [ البقرة : 229 ] . لأن الأولى وردت بعد نواه ، فناسب النهي عن قربانها ، والثانية [ ص: 236 ] بعد أوامر فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها .
قوله تعالى : نزل عليك الكتاب [ آل عمران : 3 ] . وقال : وأنزل التوراة والإنجيل [ آل عمران : 3 ] . لأن الكتاب أنزل منجما ، فناسب الإتيان ب نزل الدال على التكرير بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة .
قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق [ الأنعام : 151 ] . وفي الإسراء : خشية إملاق [ الإسراء : 31 ] . لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين : أي : لا تقتلوهم من فقر بكم فحسن نحن نرزقكم ما يزول به إملاقكم ، ثم قال : وإياهم أي : نرزقكم جميعا .
والثانية خطاب للأغنياء : أي : خشية فقر يحصل لكم بسببهم ولذا حسن نحن نرزقهم وإياكم [ الإسراء : 31 ] .
قوله تعالى : فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف : 200 ] . وفي فصلت : فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت : 36 ] . قال ابن جماعة : لأن آية الأعراف نزلت أولا ، وآية فصلت نزلت ثانيا ، فحسن التعريف أي : هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولا عند نزوغ الشيطان .
قوله تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض [ 9 : 67 ] . وقال في المؤمنين : [ ص: 237 ] بعضهم أولياء بعض [ التوبة : 71 ] . وفي الكفار : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض [ الأنفال : 73 ] . لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة ، فكان بعضهم يهودا ، وبعضهم مشركين ، فقال : من بعض أي : في الشك والنفاق . والمؤمنون متناصرون على دين الإسلام ، وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ، ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين كما قال تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ الحشر : 14 ] .
فهذه أمثلة يستضاء بها وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير وفي نوع الفواصل وفي أنواع أخر .