[ ص: 623 ] النوع الرابع والأربعون
في مقدمه ومؤخره
وهو قسمان :
الأول : ما أشكل معناه بحسب الظاهر ، فلما عرف أنه من باب ، اتضح . وهو جدير أن يفرد بالتصنيف ، وقد تعرض السلف لذلك في آيات : التقديم والتأخير
فأخرج ، عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله تعالى : ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا [ التوبة : 85 ] . قال : هذا من تقاديم الكلام ، يقول : ( لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ) .
وأخرج عنه - أيضا - في قوله تعالى : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى [ طه : 129 ] . قال : هذا من تقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما .
وأخرج عن مجاهد في قوله تعالى : أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ الكهف : 1 - 2 ] . قال : هذا من التقديم والتأخير : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا .
وأخرج عن قتادة في قوله تعالى : إني متوفيك ورافعك إلي [ آل عمران : 55 ] قال : هذا من المقدم والمؤخر ، أي : رافعك إلي ومتوفيك .
وأخرج عن عكرمة في قوله تعالى : لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ ص : 26 ] قال : هذا من التقديم والتأخير ، يقول : لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا .
وأخرج عن ابن جرير ابن زيد في قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ النساء : 83 ] . قال : هذه الآية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي :
[ ص: 624 ] أذاعوا به إلا قليلا منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .
وأخرج عن في قوله تعالى : ابن عباس فقالوا أرنا الله جهرة [ النساء : 153 ] قال : إنهم إذا رأوا الله ، فقد رأوه ، إنما قالوا جهرة : أرنا الله . قال : هو مقدم ومؤخر .
قال : يعني : أن سؤالهم كان جهرة . ابن جرير
ومن ذلك قوله وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ البقرة : 72 ] قال : البغوي : هذه أول القصة ، وإن كان مؤخرا في التلاوة .
وقال الواحدي : كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة ; وإنما أخر في الكلام ; لأنه تعالى لما قال : إن الله يأمركم : الآية ، [ البقرة : 67 ] علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم ، فلما استقر علم هذا في نفوسهم ، أتبع بقوله : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ البقرة : 72 ] فسألتم موسى ، فقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] .
ومنه أرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الفرقان : 43 ] والأصل : هواه إلهه ; لأن من اتخذ إلهه هواه غير مذموم ، فقدم المفعول الثاني للعناية به .
وقوله والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى [ الأعلى : 4 - 5 ] ، على تفسير أحوى بالأخضر . وجعله نعتا للمرعى ، أي : أخرجه أحوى ، وأخر رعاية للفاصلة .
وقوله وغرابيب سود [ فاطر : 27 ] والأصل : ( سود غرابيب ) ; لأن الغربيب الشديد السواد .
وقوله : فضحكت فبشرناها [ هود : 71 ] أي : فبشرناها فضحكت .
وقوله : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه [ يوسف : 24 ] أي : لهم بها ، وعلى هذا فالهم منفي عنه .
الثاني : ما ليس كذلك ، وقد ألف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كتابه " ( المقدمة في سر الألفاظ المقدمة " ) . قال : فيه : الحكمة الشائعة الذائعة في ذلك الاهتمام ; كما قال [ ص: 625 ] في كتابه : كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم وهم ببيانه أعنى . سيبويه
قال : هذه الحكمة إجمالية ، وأما تفاصيل ، فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع : أسباب التقديم وأسراره
الأول : التبرك : كتقديم اسم الله تعالى في الأمور ذات الشأن ، ومنه قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [ آل عمران : 18 ] وقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول : [ الأنفال : 41 ] الآية .
الثاني : التعظيم : كقوله : ومن يطع الله والرسول [ النساء : 69 ] . إن الله وملائكته يصلون [ الأحزاب : 56 ] . والله ورسوله أحق أن يرضوه [ التوبة : 62 ] .
الثالث : التشريف : كتقديم الذكر على الأنثى ، نحو : إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] الآية ، والحر في قوله : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى [ البقرة : 178 ] والحي في قوله : يخرج الحي من الميت [ الأنعام : 95 ] الآية . وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ فاطر : 22 ] . والخيل في قوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها [ النحل : 8 ] . والسمع في قوله : وعلى سمعهم وعلى أبصارهم [ البقرة : 7 ] . وقوله : إن السمع والبصر والفؤاد [ الإسراء : 36 ] . وقوله : إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم [ الأنعام : 46 ] حكى ابن عطية عن النقاش : أنه استدل بها على تفضيل السمع على البصر ، ولذا وقع في وصفه تعالى : سميع بصير [ الحج : 61 ] بتقديم . ( السميع ) .
ومن ذلك : تقديمه صلى الله عليه وسلم على نوح ومن معه في قوله : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح [ الأحزاب : 7 ] الآية .
وتقديم الرسول في قوله من رسول ولا نبي [ الحج : 52 ] .
وتقديم المهاجرين في قوله : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [ التوبة : 100 ] .
وتقديم الإنس على الجن حيث ذكرا في القرآن .
وتقديم النبيين ، ثم الصديقين ، ثم الشهداء ، ثم الصالحين في آية النساء .
وتقديم إسماعيل على إسحاق ; لأنه أشرف بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولده وأسن .
وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام ، وقدم هارون عليه في سورة طه رعاية للفاصلة .
[ ص: 626 ] وتقديم جبريل على ميكائيل في آية البقرة ، لأنه أفضل .
وتقديم العاقل على غيره في قوله : متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 33 ] . يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات [ النور : 41 ] .
وأما تقديم الأنعام في قوله : تأكل منه أنعامهم وأنفسهم [ السجدة : 27 ] فلأنه تقدم ذكر الزرع ، فناسب تقديم الأنعام بخلاف آية ( عبس ) فإنه تقدم فيها : فلينظر الإنسان إلى طعامه [ عبس : 24 ] فناسب تقديم ( لكم ) .
وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع .
وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال .
والسماء على الأرض .
، والشمس على القمر حيث وقع ، إلا في قوله : خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [ نوح : 15 - 16 ] فقيل : لمراعاة الفاصلة ، وقيل : ; لأن انتفاع أهل السماوات العائد عليهن الضمير به أكثر .
وقال : يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل السماوات وظهره لأهل الأرض ، ولهذا قال تعالى : ابن الأنباري فيهن لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء .
ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله عالم الغيب والشهادة [ الزمر : 46 ] ; لأن علمه أشرف ، وأما فإنه يعلم السر وأخفى [ طه : 7 ] فأخر فيه رعاية للفاصلة .
الرابعة : المناسبة : وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام ، كقوله : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون [ النحل : 6 ] فإن الجمال بالجمال ، وإن كان ثابتا حالتي السراح والإراحة ، إلا أنها حالة إراحتها - وهو مجيئها من المرعى آخر النهار - يكون الجمال بها أفخر ، إذ هي فيه بطان ، وحالة سراحها للمرعى أول النهار يكون الجمال بها دون الأول ، إذ هي فيه خماص :
. ونظيره قوله والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا [ الفرقان : 67 ] قدم نفي الإسراف ; لأن السرف في الإنفاق .
[ ص: 627 ] وقوله يريكم البرق خوفا وطمعا [ الروم : 24 ] ; لأن الصواعق تقع مع أول برقة ، ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات .
وقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ الأنبياء : 91 ] قدمها على الابن لما كان السياق في ذكرها في قوله : والتي أحصنت فرجها [ الأنبياء : 91 ] ، ولذلك قدم الابن في قوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية [ المؤمنون : 50 ] . وحسنه تقدم موسى في الآية قبله .
ومنه قوله : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] قدم الحكم ، وإن كان العلم سابقا عليه ; لأن السياق فيه لقوله في أول الآية : إذ يحكمان في الحرث [ الأنبياء : 78 ] .
وإما مناسبة لفظ هو من التقدم أو التأخر ، كقوله : الأول والآخر [ الحديد : 3 ] . ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين [ الحجر : 24 ] . لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [ المدثر : 37 ] بما قدم وأخر [ القيامة : 13 ] ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ الواقعة : 39 - 40 ] لله الأمر من قبل ومن بعد [ الروم : 4 ] له الحمد في الأولى والآخرة [ القصص : 70 ] وأما قوله : فلله الآخرة والأولى [ النجم : 25 ] فلمراعاة الفاصلة ، وكذا قوله : جمعناكم والأولين [ المرسلات : 38 ] .
الخامس : الحث عليه والحض على القيام به : حذرا من التهاون به . كتقديم الوصية على الدين في قوله : من بعد وصية يوصي بها أو دين [ النساء : 11 ] مع أن الدين مقدم عليها شرعا .
السادس : السبق : وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد بتقديم الليل على النهار ، والظلمات على النور ، وآدم على نوح ، ونوح على إبراهيم ، وإبراهيم على موسى ، وهو على عيسى ، وداود على سليمان ، والملائكة على البشر ، في قوله الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [ الحج : 75 ] وعاد على ثمود ، والأزواج على الذرية ، في قوله قل لأزواجك وبناتك [ الأحزاب : 59 ] والسنة على النوم ، في قوله لا تأخذه سنة ولا نوم [ البقرة : 255 ] .
أو باعتبار الإنزال ، كقوله صحف إبراهيم وموسى [ الأعلى : 19 ] وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان [ آل عمران : 33 ، 4 - 4 ] .
أو باعتبار الوجوب والتكليف ، نحو : اركعوا واسجدوا [ الحج : 77 ] فاغسلوا وجوهكم وأيديكم [ المائدة : 6 ] الآية إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] .
[ ص: 628 ] ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : نبدأ بما بدأ الله به .
أو بالذات ، نحو : مثنى وثلاث ورباع [ النساء : 3 ] . ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [ المجادلة : 7 ] وكذا جميع الأعداد : كل مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات .
وأما قوله : أن تقوموا لله مثنى وفرادى [ سبإ : 46 ] فللحث على الجماعة والاجتماع على الخير .
السابع : السببية : كتقديم العزيز على الحكيم ; لأنه عز فحكم . والعليم عليه ; لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم .
وأما تقديم الحكيم عليه في سورة الأنعام . فلأنه مقام تشريع الأحكام .
ومنه : تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة ; لأنها سبب حصول الإعانة ، وكذا قوله : يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] ; لأن التوبة سبب الطهارة . لكل أفاك أثيم [ الجاثية : 7 ] ; لأن الإفك سبب الإثم . يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [ النور : 30 ] ; لأن البصر داعية إلى الفرج .
الثامن : الكثرة : كقوله : فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ التغابن : 2 ] ; لأن الكفار أكثر . فمنهم ظالم لنفسه الآية ، قدم الظالم لكثرته ، ثم المقتصد ، ثم السابق . ولهذا قدم السارق على السارقة ; لأن السرقة في الذكور أكثر . والزانية على الزاني ; لأن الزنى فيهن أكثر .
ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبا ، ولهذا ورد : " ( ) " . إن رحمتي غلبت غضبي
وقوله : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [ التغابن : 14 ] قال في أماليه : إنما قدم الأزواج ; لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء ، ووقوع ذلك [ ص: 629 ] في الأزواج أكثر منه في الأولاد ، وكان أقعد في المعنى المراد فقدم . ولذلك قدمت الأموال في قوله : ابن الحاجب إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ التغابن : 15 ] ; لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة . إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 - 7 ] وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها ، فكان تقديمها أولى .
التاسع : الترقي من الأدنى إلى الأعلى : كقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها [ الأعراف : 195 ] الآية ، بدأ بالأدنى لغرض الترقي ; لأن اليد أشرف من الرجل ، والعين أشرف من اليد ، والسمع أشرف من البصر .
ومن هذا النوع تأخير الأبلغ ، وقد خرج عليه تقديم الرحمن على الرحيم ، والرءوف على الرحيم ، والرسول على النبي في قوله : وكان رسولا نبيا [ مريم : 51 ] ، وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة .
العاشر : التدلي من الأعلى إلى الأدنى : وخرج عليه : لا تأخذه سنة ولا نوم [ البقرة : 255 ] . لا يغادر صغيرة ولا كبيرة [ الكهف : 49 ] . لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون [ النساء : 172 ] .
هذا ما ذكره ، وذكر غيره أسبابا أخر : ابن الصائغ
منها : كونه أدل على القدرة وأعجب : كقوله : فمنهم من يمشي على بطنه [ النور : 45 ] الآية ، وقوله وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير [ الأنبياء : 79 ] . قال : قدم الجبال على الطير ; لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان [ إلا أنه غير ] ناطق . الزمخشري
ومنها : رعاية الفواصل : وسيأتي لذلك أمثلة كثيرة .
ومنها : إفادة الحصر للاختصاص ، وسيأتي في النوع الخامس والخمسين .
تنبيه : قد يقدم لفظ في موضع ويؤخر في آخر ، ونكتة ذلك :
إما لكون السياق في كل موضع يقتضي ما وقع فيه ، كما تقدمت الإشارة إليه .
وإما لقصد البداءة والختم به للاعتناء بشأنه ، كما في قوله : يوم تبيض وجوه [ آل عمران : 106 ] الآيات .
[ ص: 630 ] وإما لقصد التفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب ، كما في قوله : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] وقوله : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا [ الأعراف : 161 ] .
وقوله إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور [ المائدة : 44 ] .
وقال في [ الأنعام : 91 ] قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس .