قاعدة في . حذف المفعول اختصارا واقتصارا
قال ابن هشام : جرت عادة النحويين أن يقولوا بحذف المفعول اختصارا واقتصارا ، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل ، ويريدون بالاقتصار الحذف لغير دليل ، ويمثلونه بنحو : [ ص: 85 ] كلوا واشربوا [ الطور : 19 ] ؛ أي : أوقعوا هذين الفعلين ، والتحقيق أن يقال - يعني كما قال أهل البيان - : تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه ، ومن أوقع عليه ، فيجاء بمصدره مسندا إلى فعل كون عام ، فيقال : حصل حريق أو نهب ، وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفعل للفاعل ، فيقتصر عليهما ، ولا يذكر المفعول ولا ينوى ؛ إذ المنوي كالثابت ، ولا يسمى محذوفا ؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له .
ومنه : ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] ، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر : 9 ] ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف : 31 ] ، وإذا رأيت ثم [ الإنسان : 20 ] ؛ إذ المعنى : ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة ، وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم ، وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف ، وإذا حصلت منك رؤية .
ومنه : ولما ورد ماء مدين [ القصص : 23 ] الآية ، ألا ترى أن عليه الصلاة والسلام رحمهما ؛ إذ كانتا على صفة الذياد ، وقومهما على السقي ، لا لكون مذودهما غنما وسقيهم إبلا ، وكذلك المقصود من : لا نسقي السقي لا المسقي . ومن لم يتأمل قدر ( يسقون إبلهم ) ، و ( تذودان غنمهما ) ، و ( لا نسقي غنما ) . وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله فيذكران ، نحو : لا تأكلوا الربا [ آل عمران : 130 ] ، ولا تقربوا الزنا [ الإسراء : 32 ] ، وهذا النوع الذي إذا لم يذكر محذوفه قيل محذوف .
وقد يكون اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره ، نحو : أهذا الذي بعث الله رسولا [ الفرقان : 41 ] ، وكلا وعد الله الحسنى [ النساء : 95 ] ، وقد يشتبه الحال في الحذف وعدمه ، نحو : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [ الإسراء : 110 ] . قد يتوهم أن معناه ( نادوا ) ، فلا حذف ، أو ( سموا ) فالحذف واقع .
ذكر شروطه : هي ثمانية :
قالوا سلاما [ هود : 69 ] ؛ أي : سلمنا سلاما . أو مقالي ، نحو : أحدها : وجود دليل إما حالي ، نحو : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا [ النحل : 30 ] ؛ أي : أنزل خيرا .
[ ص: 86 ] قال سلام قوم منكرون [ الذاريات : 25 ] ؛ أي : سلام عليكم ، أنتم قوم منكرون .
ومن الأدلة : العقل : حيث يستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف . ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه ، بل يستفاد التعيين من دليل آخر ، نحو : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] ، فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة ؛ لأن التحريم لا يضاف إلى الأجرام ، وإنما هو والحل يضافان إلى الأفعال ، فعلم بالعقل حذف شيء .
وأما تعيينه - وهو التناول - فمستفاد من الشرع ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ؛ لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة . إنما حرم أكلها
وأما قول صاحب التلخيص أنه من باب دلالة العقل أيضا ، فتابع به السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة .
وتارة يدل العقل أيضا على التعيين ، نحو : وجاء ربك [ الفجر : 22 ] ؛ أي : أمره بمعنى عذابه ؛ لأن العقل دل على استحالة مجيء البارئ ؛ لأنه من سمات الحادث ، وعلى أن الجائي أمره .
أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] ، وأوفوا بعهد الله [ النحل : 91 ] ؛ أي : بمقتضى العقود ، وبمقتضى عهد الله ؛ لأن العقد والعهد قولان قد دخلا في الوجود وانقضيا ، فلا يتصور فيهما وفاء ولا نقض ، وإنما الوفاء والنقض بمقتضاهما وما ترتب عليهما من أحكامهما .
وتارة يدل على التعيين العادة ، نحو : فذلكن الذي لمتنني فيه [ يوسف : 32 ] ، دل العقل على الحذف ؛ لأن يوسف لا يصح ظرفا للوم ، ثم يحتمل أن يقدر : ( لمتنني في حبه ) لقوله : قد شغفها حبا [ يوسف : 30 ] ، وفي مراودتهما لقوله : تراود فتاها [ يوسف : 30 ] ، والعادة دلت على الثاني ؛ لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه عادة ؛ [ ص: 87 ] لأنه ليس اختياريا بخلاف المراودة للقدرة على دفعها .
وتارة يدل على التصريح به في موضع آخر ، وهو أقواها ، نحو : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله [ البقرة : 210 ] ؛ أي : أمره ، بدليل : أو يأتي أمر ربك [ النحل : 33 ] ، وجنة عرضها السماوات [ آل عمران : 133 ] ؛ أي : كعرض ، بدليل التصريح به في آية الحديد . رسول من الله [ البينة : 2 ] ؛ أي : من عند الله ، بدليل : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم [ البقرة : 101 ]
ومن الأدلة على أصل الحذف العادة بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف ، نحو : لو نعلم قتالا لاتبعناكم [ آل عمران : 167 ] ؛ أي : مكان قتال ، والمراد مكانا صالحا للقتال ؛ وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال ، ويتعيرون بأن يتفوهوا بأنهم لا يعرفونه ، فالعادة تمنع أن يريدوا : لو نعلم حقيقة القتال : فلذلك قدره مجاهد ( مكان قتال ) ، ويدل عليه أنهم أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة .
ومنها : الشروع في الفعل ، نحو : ( بسم الله ) ، فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له ، فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت ( أقرأ ) ، أو الأكل قدرت ( آكل ) ، وعلى هذا أهل البيان قاطبة خلافا لقول النحاة : إنه يقدر : ابتدأت أو ابتدائي كائن ( بسم الله ) ، ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها [ هود : 41 ] ، وفي حديث : باسمك ربي وضعت جنبي
ومنها : الصناعة النحوية كقولهم في : لا أقسم [ القيامة : 1 ] ، التقدير : ( لأنا أقسم ) ؛ لأن فعل الحال لا يقسم عليه ، وفي : تالله تفتأ [ يوسف : 85 ] ، التقدير : لا تفتأ لأنه لو كان الجواب مثبتا دخلت اللام والنون كقوله : وتالله لأكيدن : [ الأنبياء : 57 ] ، وقد توجب الصناعة التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه كقولهم في : [ ص: 88 ] لا إله إلا الله [ محمد : 19 ] : إن الخبر محذوف ؛ أي : موجود .
وقد أنكره الإمام فخر الدين وقال : هذا الكلام لا يحتاج إلى تقدير ، وتقدير النحاة فاسد ؛ لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة ، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد ، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر .
ورد بأن تقديرهم ( موجود ) يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا ، فإن العدم لا كلام فيه ، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة ، ثم لا بد من تقدير خبر ، لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أو مقدر ، وإنما يقدر النحوي ليعطي القواعد حقها ، وإن كان المعنى مفهوما .
تنبيه .
قال ابن هشام : إنما يشترط الدليل فيما إذا كان المحذوف الجملة بأسرها أو أحد ركنيها ، أو يفيد معنى فيها هي مبنية عليه ، نحو : تالله تفتأ [ يوسف : 85 ] ، أما الفضلة فلا يشترط لحذفها وجدان دليل ، بل يشترط أن لا يكون في حذفها ضرر معنوي أو صناعي .
قال : ويشترط في الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف . ورد قول الفراء في : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين [ القيامة : 3 - 4 ] : إن التقدير : ( بل ليحسبنا قادرين ) ؛ لأن الحسبان المذكور بمعنى الظن ، والمقدر بمعنى العلم ؛ لأن التردد في الإعادة كفر ، فلا يكون مأمورا به .
قال : والصواب فيها قول : إن : قادرين حال ؛ أي : بل نجمعها قادرين ؛ لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان ، ولأن ( بلى ) لإيجاب المنفي ، وهو فيها فعل الجمع . سيبويه
الشرط الثاني : ، ومن ثم لم يحذف الفاعل ولا نائبه ، ولا اسم كان وأخواتها . أن لا يكون المحذوف كالجزء
قال ابن هشام : وأما قول ابن عطية في : بئس مثل القوم [ الجمعة : 5 ] : إن تقدير ( بئس المثل مثل القوم ) ، فإن أراد تفسير الإعراب ، وأن الفاعل لفظ المثل محذوفا فمردود ، وإن أراد تفسير المعنى ، وأن في بئس ضمير المثل مستترا فسهل .
الشرط الثالث : إذ الحذف مبني على [ ص: 89 ] الاختصار ، والتأكيد مبني على الطول ، ومن ثم رد أن لا يكون مؤكدا ؛ لأن الحذف مناف للتأكيد الفارسي على في قوله في : الزجاج إن هذان لساحران [ طه : 63 ] : إن التقدير : ( إن هذان لهما ساحران ) ، فقال : الحذف والتوكيد باللام متنافيان ، وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما ؛ لأن المحذوف لدليل كالثابت .
الرابع : ومن ثم لم يحذف اسم الفعل لأنه اختصار للفعل . أن لا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر
الخامس : أن لا يكون عاملا ضعيفا ، فلا يحذف الجار ، والناصب للفعل والجازم إلا في مواضع قويت فيها الدلالة ، وكثر فيها استعمال تلك العوامل .
السادس : ومن ثم قال أن لا يكون المحذوف عوضا عن شيء ، ابن مالك : إن حرف النداء ليس عوضا عن ( أدعو ) لإجازة العرب حذفه ؛ ولذا أيضا لم تحذف التاء من إقامة واستقامة . وأما : وإقام الصلاة [ الأنبياء : 73 ] ، فلا يقاس عليه ، ولا خبر كان لأنه عوض أو كالعوض من مصدرها .
السابع : ومن ثم لم يقس على قراءة : أن لا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل القوي وكلا وعد الله الحسنى [ الحديد : 10 ] ،
فائدة : اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن ، ولهذا قال في قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ] : إن الأصل ( لا تجزي فيه ) ، فحذف حرف الجر فصار ( تجزيه ) ، ثم حذف الضمير فصار ( تجزي ) ، وهذه ملاطفة في الصناعة ، ومذهب أنهما حذفا معا ، قال سيبويه : وقول ابن جني الأخفش أوفق في النفس ، وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد .