فصل .
[ ] . حكم ترتيب السور
وأما ترتيب السور : فهل هو توقيفي أيضا ، أو هو باجتهاد من الصحابة ؟ خلاف :
فجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه .
قال ابن فارس : جمع القرآن على ضربين :
أحدهما : تأليف السور ، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ، فهذا هو الذي تولته الصحابة .
وأما الجمع الآخر : وهو جمع الآيات في السور ، فهو توقيفي تولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبريل ، عن أمر ربه .
ومما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور : فمنهم من رتبها على النزول ، وهو مصحف علي ، كان أوله : اقرأ ، ثم المدثر ، ثم ن ، ثم المزمل ، ثم تبت ، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني .
وكان أول مصحف البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران على اختلاف شديد . وكذا مصحف ابن مسعود أبي وغيره .
[ ص: 221 ] وأخرج ابن أشتة في المصاحف من طريق عن إسماعيل بن عياش حبان بن يحيى ، عن أبي محمد القرشي قال : أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال ، فجعلت سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ، ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم .
وذهب إلى الأول جماعة : منهم القاضي في أحد قوليه .
قال : أنزل الله القرآن كله إلى السماء الدنيا ، ثم فرقه في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ، ويوقف أبو بكر الأنباري جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع الآية والسورة ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن .
وقال الكرماني في البرهان : ترتيب السور هكذا هو عند الله في الكتاب المحفوظ على هذا الترتيب وعليه جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه ، وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين ، وكان آخر الآيات نزولا : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [ البقرة : 281 ] فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين . كان - صلى الله عليه وسلم - يعرض على
وقال الطيبي : أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح ، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ .
قال الزركشي في البرهان : والخلاف بين الفريقين لفظي ; لأن القائل بالثاني يقول : إنه رمز إليهم ذلك ، لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ، ولهذا قال مالك : إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم ، فآل الخلاف إلى أنه : هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر .
وسبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير .
وقال البيهقي في المدخل : كان القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق . ومال ابن عطية إلى أن كثيرا من [ ص: 222 ] السور كان قد علم ترتيبها في حياته - صلى الله عليه وسلم - كالسبع الطوال والحواميم والمفصل ، وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده .
وقال أبو جعفر بن الزبير : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف ، كقوله : رواه اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران مسلم .
وكحديث سعيد بن خالد : . رواه قرأ - صلى الله عليه وسلم - بالسبع الطوال في ركعة في مصنفه ، وفيه : ابن أبي شيبة أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يجمع المفصل في ركعة .
وروى : عن البخاري أنه قال - في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي . فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها . ابن مسعود
وفي البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة ، جمع كفيه ، ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين .
وقال : المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث أبو جعفر النحاس واثلة : الحديث . أعطيت مكان التوراة السبع الطوال . . .
قال : فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من ذلك الوقت ، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد ، لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تأليف القرآن .
وقال ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي .
[ ص: 223 ] وقال ابن حجر : ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها ، لا يمتنع أن يكون توقيفيا .
قال : ومما يدل على أن ترتيبها توفيقي : ما أخرجه أحمد وأبو داود ، عن أوس بن أبي أوس ، عن حذيفة الثقفي قال كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف . . . . الحديث وفيه : فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . طرأ علي حزبي من القرآن ، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه
فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟
قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم .
قال : فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال : ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة ، بخلاف ما عداه .
قلت : ومما يدل على أنه توفيقي كون الحواميم رتبت ولاء وكذا الطواسين ، ولم ترتب المسبحات ولاء ، بل فصل بين سورها ، وفصل بين طسم الشعراء وطسم القصص ب طس مع أنها أقصر منهما ، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت طس عن القصص .
والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي ، وهو : أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال . ولا ينبغي أن يستدل بقراءته - صلى الله عليه وسلم - سورا ولاء على أن ترتيبها كذلك . وحينئذ فلا يرد حديث قراءته النساء قبل آل عمران ; لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب فلعله فعل ذلك لبيان الجواز .
وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب ، عن قال : سمعت سليمان بن بلال ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة ، [ ص: 224 ] وإنما أنزلتا بالمدينة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ، ومن كان معه فيه ، واجتماعهم على علمهم بذلك ، فهذا مما ينتهى إليه ، ولا يسأل عنه .