الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سبب نكبة أبي أيوب المورياني وزير المنصور  

حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثني أبي: قال: كان أبو جعفر المنصور في بعض أسفاره في أيام بني أمية تزوج امرأة من الأزد بالموصل عن ضر شديد أصابه حتى أكرى نفسه مع الملاحين يمد في الحبل، حتى انتهى إلى الموصل أو فعل ذلك لأمر خافه على نفسه، فتنكر وأكرى نفسه في مدادي السفن، فخطب هذه المرأة ورغبها في نفسه، ووعدها ومناها وأخبرنا أنه نابه القدر، وأنه من أهل بيت شرف، وأنها إن تزوجته سعدت به، فلم يزل يمنيها بهذا وشبهه حتى أجابته وأقام معها، وكان يختلف في أسبابه ويجعل طريقه عليها بما رزقه الله عز وجل، ثم اشتملت على حمل، فقال لها: أيتها المرأة! هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك، فإن ولدت ابنا فسميه جعفرا وكنيه أبا عبد الله، وإن ولدت بنتا فسميها فلانة، وأنا عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فاستري أمري فإنا قوم مطلوبون، والسلطان إلينا سريع، وودعها وخرج، فقضي أنها ولدت ذكرا وأخرجت الرقعة وقرأت النسب فسمته جعفرا وضرب الدهر على ذلك ما تسمع له خبرا، ونشأ الصبي مع أخواله وأهل بيت أمه، وكان كيسا ذهنا لقنا واستخلف [ ص: 159 ] أبو العباس فقيل للمرأة: إن كنت صادقة في رقعتك وكان من كتبها صادقا فإن زوجك الخليفة أمير المؤمنين، قالت: ما أدري صفوا لي صفة هذا الخليفة، قالوا: غلام حين اتصل وجهه، قالت: ليس هو هو، قيل: فاستري إذا أمرك، ولم يلبث أبو العباس أن مات واستحق عندها اليأس، وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وظرف وكتب ونزعت به همته إلى بغداد، فدخل ديوان أبي أيوب كاتب المنصور، وانقطع إلى بعض أهله فأتى عليه زمان يتقوت الكتب ويتزيد في أدبه وفهمه وخطه، حتى بلغ أن صار يكتب بين يدي أبي أيوب، إلى أن تهيأ أن خرج خادم يوما إلى الديوان يطلب كاتبا يكتب بين يدي المنصور، فقال أبو أيوب للغلام: خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، فدخل الغلام فكتب وكانت تتهيأ من أبي جعفر إليه النظرة بعد النظرة يتأمله، وألقيت عليه محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فلبث زمانا لا يزال الخادم قد خرج فيقول: يا غلام خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، واستراح أبو أيوب إلى مكانه، ورأى أنه قد حمل عنه ثقلا، وبر الغلام ووصله وكساه كسوة تصلح أن يدخل بها إلى أمير المؤمنين، ثم إن أبا جعفر قال للغلام يوما: ما اسمك؟ قال: جعفر، قال: ابن من؟ فسكت متحيرا، قال: ابن من ويحك؟ قال: ابن عبد الله قال: فأين أبوك؟ قال: لم أره ولم أعرفه، ولكن أمي أخبرتني أن أبي شريف، وأن عندها رقعة بخطه فيها نسبه، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فساعة ذكر الرقعة تغير وجه المنصور، فقال: وأين أمك؟ قال: بالموصل، قال: وأين تنزلون؟ قال: في موضع كذا، قال: فتعرف فلانا؟ قال: نعم هو إمام مسجد محلتنا، قال: أفتعرف فلانا؟ قال: نعم بقال في سكتنا، فلما رأى الغلام أبا جعفر ينزع بأسماء قوم يعرفهم أدركته هيبة له، وجزع وتدمع، فأدركت أبا جعفر الرقة عليه فلم يتمالك أن قال: فلانة بنت فلان من هي منك؟ قال: أمي، قال: ففلانة؟ قال: خالتي، قال: ففلان؟ قال: خالي، فضمه إليه وبكى، وقال: يا غلام! لا يعلمن أبو أيوب ولا أحد من خلق الله تعالى ما دار بيني وبينك، انظر انظر احذر احذر، فنهض الغلام فخرج، فقال له أبو أيوب لقد احتبست عند أمير المؤمنين، قال: كتبت كتبا كثيرة وأملاها علي، قال: فأين هي؟ قال: جعلها نسخا يتردد فيها حتى يحكمها ثم تخرج إلى الديوان ثم إن أبا جعفر جعل يقول في بعض الأيام لأبي أيوب: هذا الغلام الذي يكتب بين يدي كيس فاستوص به، قال: فاتهم أبو أيوب الغلام أنه يلقي إلى أبي جعفر الشيء بعد الشيء من خبره، ثم لم يلبث أن سأله عنه مرة بعد مرة فقذف في قلب أبي أيوب بغض الغلام، وأنه يقوم مقامه إن فقده أبو جعفر، وقذف في قلبه أنه يسعى عليه وأنه يخرج أخباره، فجعل إذا خرج الخادم يطلب كاتبا بعث معه غيره وأبو جعفر يزداد ولها إلى الغلام ويجن جنونا وليس يمنعه من إدنائه وإظهار أمره إلا لأمر يريده، فلما رأى أن [ ص: 160 ] أبا أيوب يحبسه عنه عنادا، قال للخادم: اخرج إلى الديوان فجئني بفلان الغلام الذي كان يكتب بين يدي، فإن بعث معك أبو أيوب بغيره فقل:

لا، أمرني أمير المؤمنين ألا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك فاستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - قد تعرفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني، وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخافه على نفسي، فقال له أبو جعفر: بارك الله عليك، فما أخطأت الذي في نفسي وهذا كله يا بني قد جال في صدري، فإذا كان غد فتعرض لأن يغلظ لك، فإذا أغلظ فقم فانصرف كأنك مغضب، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمك، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل موضع كذا، فإني منفذ إليك خادما يتفقد أمورك ويعرف خبرك، ولا تطلعن أحدا من الخلق طلع ما معك، وامض بهذا المال وبهذا العقد وأحرزه أولا قبل رجوعك إلى الديوان، ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور، ورجع الغلام بوجه بهج مسرور لا يخفي ذلك عليه وظهور الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكري ما سره، واستشعر الوحشة منه وصرف أكثر عمله عنه، ثم لم يلبث أن أغلظ له، فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي، فكأني قد ثقلت عليك فأنتحي عنك قبل أن تطردني، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياما، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلا فيه، فقيل له: إنه قد تهيأ للسفر وتجهز جهازا حسنا وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به؟ لهذا الأمر نبأ، وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئا، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت وقد ربصه لمكاني وينبغي أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيلم بهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية برا وبحرا، فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني بما معه، فشخص وتهيأ، ثم إن الغلام لما خرج عن بغداد رأى أنه قد أمن فقصر في مسيره، وكان يقيم في الموضع فيستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه، فباتا بقرية فقام إليه الرسول فخنقه وطرحه في البئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه، وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب وسلم ذلك إليه وشرح الخبر له، ففتش متاعه أبو أيوب فإذا المال والعقد فعرفه، [ ص: 161 ] وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه فوجم أبو أيوب وندم وعلم أنه قد عجل وأخطأ، وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره، وأبطأ خبر الغلام على أبي جعفر، واستبطأه في الوقت الذي ضرب له، فدعا خادما من ثقاته ورجلا من خاصته، فقال لهما: استقرئا المنازل إلى الموصل منزلا منزلا وقرية قرية، وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا الموصل، ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فسلا عن فلانة، ووصف لهما كل ما أراد ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكروا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد خلق الله تعالى ولها إلى ابنها، وحاجة إلى علم خبره، فأطلعاها طلع حاله، وأمراها أن تستر أمرها، ثم رجعا إلى أبي جعفر بجملة خبره، فكادت أمه أن تقتل نفسها ولم ترد الدنيا بعده، وكان المنصور يذكره فيكاد ذكره يصدع قلبه، وأجمع أبو جعفر على الإيقاع بأبي أيوب عند ذلك، فاستصفى ماله ومال أهل بيته، ثم قتلهم جميعا وأباد عصراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه، وقال: ذاك قاتل حبيبي.

التالي السابق


الخدمات العلمية