مكافأة قيمة على تصحيح كلمة من حديث شريف
حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي ، قال : حدثنا قال : حدثني الزبير بن بكار ، قال : دخلت على أمير المؤمنين النضر بن شميل ، المأمون بمرو ، وعلي أطمار مترعبلة ، فقال : لي : يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق ، قال : لا ، ولكنك تتقشف ، قال : فتجاذبنا الحديث ، فقال المأمون : حدثني عن هشيم بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس ، " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز " . قلت : صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم ، حدثني عن [ ص: 383 ] عوف الأعرابي ، الحسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز " فكان المأمون متكئ فاستوى جالسا ، وقال : السداد لحن يا نضر ؟ قلت : نعم ها هنا ، وإنما لحن هشيم وكان لحانا ، فقال : ما الفرق بينهما ، قلت : قال : أفتعرف العرب ذلك ، قلت : نعم ، هذا العرجي من ولد السداد : القصد في السبيل ، والسداد : البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد ، يقول : عثمان بن عفان
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فأطرق المأمون مليا ثم ، قال : قبح الله من لا أدب له ، ثم قال : أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب ، قلت : قول ابن بيض في الحكم بن مروان :تقول لي والعيون هاجعة أقم علينا يوما فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها : لأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلا هيهات أدخل أعطني سلمي
إني وإن كان ابن عمي عاتبا لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأ مترجرجا في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه حتى يحيز إلي وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهه بطريفة لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل يا ليت أن علي حسن روائه
إني امرؤ لم أزل وذاك من الله أديبا أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد ار وإن كنت نازحا طربا
لا أجتوي خلة الصديق ولا أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر زق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا أجهد أخلاف غريب حلبا
قال القاضي رحمه الله : والذي حكي في هذا عن بندار قريب ، وجائز أن يكون الصفي بمعنى الشيء الذي يختار ويصطفى ، وإن كان مصطفيه غير ملك ، لأن صفي المال إنما وسم بهذه السمة لأن الملك اصطفاه لنفسه ، وجائز أن يصطفيه الملك ثم يصير لبعض السوقة ، وجائز أن يقال للشيء الكريم صفي بمعنى أنه لنفاسته مما يصطفيه الملوك ويصلح أن يصطفوه ، فيعبر عنه بذلك قبل أن يصطفى ، كما قال الله عز وجل : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فسماهم شهداء قبل أن يشهدوا ، وكقوله : إني أراني أعصر خمرا وكانت الملوك قبل الإسلام تصطفي من الغنيمة علقا منها كريما أو غرة مشتراة لأنفسها فيأخذه دون الجيش ، وفي ذلك يقول الشاعر :
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
رجعنا إلى تمام الشعر ، شعر ابن عبدل وبقية الخبر المتضمن له :
إني رأيت الفتى الكريم إذا رغبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلا ولا يعطيك شيئا إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إلا الد ين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما شد بعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر حل ومن لا يزال مغتربا
يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكور
قال القاضي رحمه الله : قوله في الخبر أطمار مترعبلة ، يريد ثيابا متقطعة ، يقال : رعبلت الثوب وغيره إذا قطعته ، قال الشاعر :
يا من رأى ضربا يرعبل بعضه بعضا كمعمعة الآباء المحرق
الرواية الأخرى
حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني ، قال : قال : أحمد بن عبيد بن ناصح ، قال : أبو زيد ، قال : دخلت على النضر بن شميل : المأمون ، وعلي أطمار أخلاق غسيل ، فقال لي : يا نضر ! تدخل علي في مثل هذه الأخلاق ؟ ثم قال : نحمل منك هذا على التقشف ، ثم تجاذبنا الحديث ، فقال : المأمون : حدثنا عن هشيم بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس ، " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين : أخبرني عن عوف الأعرابي ، الحسن ، عن عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علي بن أبي طالب إذا تزوج الرجل [ ص: 386 ] المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " وكان متكئا ، فجلس واستوى ، وقال : يا نضر ! السداد في هذا الموضع لحن ؟ قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين ، وإنما لحن هشيم ، فقال لي : ما الفرق بين السداد والسداد ، قلت : السداد : القصد في الدين والسبيل ، والسداد : البلغة في الشيء أسد به الشيء ، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قلت : نعم ، هذا العرجي من ولد يقول : عثمان بن عفان ،
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطا ولم تك نسبتي في آل عمرو
إذا كان دوني من بليت بجهله أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من العلا هويت إذا حلما وصفحا عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجا فإن له حق التقدم والفضل
على كل حال فاجعل الحزم عدة لما أنت باغيه وعونا على الدهر
فإن نلت أمرا نلته عن عزيمة وإن قصرت عنه الحقوق ففي عذر
وذي غيلة سالمته فقهرته فأوقرته مني بعبء التجمل
ومن لا يدافع سيئات عدوه بإحسانه لم يأخذ الطول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا لضغن قديم من واد معجل
إني ليهجرني الصديق تجنبا فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاقبته أغريته فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متحكم يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما كان السكوت عن الجواب جوابا
[ ص: 387 ] مترب ، قال : فمن السحاة ، قلت : يا غلام اسح الكتاب ، قال : فهو ماذا ؟ قلت : كتاب مسحى ، قال : الطين ، قلت : يا غلام طن الكتاب ، وأطن الكتاب ، قال : فهو ماذا ؟ قلت : مطين ومطان ، قال : يا غلام أترب واسح وطن الكتاب ، ثم قال امض إلى بهذا الكتاب ، فمضيت فأوصلته ، فقال : بم استأهلت أن يأمر لك بخمسين ألف درهم ؟ فحدثته الحديث على جهته ، فقال : لحنت أمير المؤمنين ؟ قلت : ما لحن ، وإنما لحن هشيم ، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه ، فأمر لي بأربعين ألف أخرى من عنده ، وانصرفت بكلمة أفادوها بتسعين ألف درهم . الفضل بن سهل
تعقيب للمؤلف بشرح حال العلماء في زمنه
قال القاضي رحمه الله : قد كان من مضى من العلماء وأهل الفضل من الأدباء ، تمسهم الفاقة ، وتنالهم العسرة والإضاقة ، ثم يصلون من الخلفاء ، والسادة الرؤساء ، بيسير ما عندهم من العلم والحكمة ، والأدب والمعرفة ، إلى الحظ الخطير ، والوفر الكبير ، ممن اتفق له ذلك بعد شدة عظيمة لحقته ، وفاقة مجحفة لزمته ، وكان أحد الأعلام ممن أخذ عن الخليل علم العربية ، وله من رواية السنن والآثار ، والأحاديث والأخبار ، منزلته ولما أضر به إيطان والنضر بن شميل البصرة ، ونبت بها عنه المعيشة ، شرع في الظعن عنها ، فذكر فيما روي لنا عنه من طريق لم يحضرني في هذا الوقت ، ولعلي أورده إذا عثرت عليه بعد ، أنه تبعه سبع مائة رجل أو نحوهم من أصحابه يشيعونه ، وجعلوا يبكون توجعا لمفارقته إياهم ، وأظهر لهم نحو هذا من استيحاشه وكراهته النأي عليها عنهم ، وقال : لو كان لي في كل يوم ربع من الباقلى أتقوته لما ظعنت .
قال الراوي : فعجبت من أنه لم يكن في هذا الجمع الكثير من المتفجعين لفقده من يكفيه هذا القدر ، ويقوم له به ، ثم إنه أتى خراسان فاستغنى وأثرى بما أسدى إليه المأمون لما وصل إليه وسمع كلامه ، ووقف على أدبه ، ولقد ظهر من المأمون في هذا الخبر من النبل والإنصاف لأهل العلم والتواضع لمن تجيء له من قبله فائدة ، وظهر له منه علم ومعرفة ، ما شكر الله تعالى لما أراده به ، ألا ترون إلى ما اقترحه من الأشعار في المعاني التي ذكر ، وإلى نقده إياها ، وإلى نقد استحسانه لها ، ولقد كان في الشعراء إذا أنشده النقاد ، والشعراء إذا أنشدوه كان من الأجواد ، ولقد روي لنا عنه من نقد الشعر وتبريزه في التمييز بين جيده ورديئه ، وإبرازه على أهل هذه الصناعة فيه ، وعلوه بالحجة عليهم عند مخالفتهم إياه ما يطول ذكره ، وسنأتي بما يحضرنا منه في مستأنف مجالسنا هذه .